للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن التأسي فطرة من فطر الله تعالى]

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

إن الله تبارك وتعالى لما خلق الناس ركز في فطرهم التأسي، وقد ذكر ربنا تبارك وتعالى في أكثر من آية في كتابه هذا المعنى، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢١]، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر ثمانية عشر نبياً في سياق واحد، قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠]، وقال تبارك وتعالى لما ذكر القصص: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَاب} [يوسف:١١١]؛ وإنما ذلك لما ركزه الله تبارك وتعالى في فطر الناس من التأسي.

وقد ورد مثل هذا المعنى في كثير من الأحاديث الصحيحة؛ منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، فساق خبره في تخلفه عن غزوة تبوك، فكان مما ذكره في مسألة الأسوة، ذكر موضعين: الموضع الأول: أنه ذكر تخلفه عن الناس، وأنه في كل مرة يعزم على أن يلحق بهم فيصده النظر في أرضه وفي ثماره عن مواصلة السير خلف الغزاة، قال: (فياليتني فعلت -أي: يا ليتني لما عزمت على أن ألحق بهم فعلت- قال: وكان يحزنني أني لا أجد لي أسوة إلا منافقاً مغموصاً عليه، أو رجل ممن عذر الله عز وجل) الذي كان يحزنه بعدما خرج الناس إلى الغزوة أنه لا يجد في المدينة إلا مغموصاً عليه في النفاق ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو رجلاً ممن عذر الله عز وجل.

ثم ذكر خبره وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قدم من تبوك، وجاءه المعذرون من الأعراب، والمنافقون يعتذرون عن تخلفهم عنه في غزوة تبوك، قال: (فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله.

قال: فلما رآني تبسَّم تبسم المغضب وقال لي: ما خلفك؟ فقلت: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الدنيا لخرجت من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً، ولكنني إذا حدثتك حديثاً تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين إلا في هذه الغزوة.

فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق.

قال: فتبعني رجال من بني سلمة، وجعلوا يؤنبونني، وقالوا: والله ما نعلم أنك أذنبت ذنباً قبل ذلك، ولقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.

قال: فما زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي أحد غيري هذا الذي لقيت؟ قالوا: نعم.

فقال: من هم؟ قالوا: هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع.

قال: فذكروا لي رجلين صالحين ممن شهدا بدراً لي فيهم أسوة).

فانظر إلى الموضع الأول الذي أحزنه: أن يكون أسوته منافقاً.

وانظر إلى الموضع الثاني بعدما هم أن يكذب نفسه، ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله أنا مخطئ! بعدما هم أن يكذب نفسه الذي ثبته وجعله رابط الجأش؛ أن رجلين فاضلين ممن شهد بدراً لقيا ما لقيه، فقوى ذلك قلبه.