للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وفاؤه عليه الصلاة والسلام]

إذا نظرت إلى وفائه عليه الصلاة والسلام ما رأيته غدر قط، وما ينبغي له عليه الصلاة والسلام، حتى مع أعدائه إذا قال وفّى، في صحيح مسلم أن حذيفة بن اليمان قال: (ما شهدت أنا وأبي وقعة بدر -مع أنهم كانوا حاضرين، لكن ما قاتلوا- قال: لقينا كفار قريش فقالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة.

قالوا: إنكم ستقاتلوننا -أي مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأعطونا العهد والميثاق ألا تقاتلونا ونحن نخلي بينكم وبين وجهتكم، فأعطوهم العهد والميثاق، ثم جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقصا عليه ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: نوفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) هو أوفى الناس، لا يغدر وما ينبغي له! وكما روى النسائي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأذن للناس في البيعة العامة، أمَّن الناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين، فقال: اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)، وكان الخائف إذا أراد أن يفر من مَن يريد أن يقتص منه أو يقتله ذهب إلى الكعبة فتعلق بأستارها، فحينئذ يأمن؛ لأن العرب كانوا يعظمون البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجروا على سالف ما كنتم ترون أو تفعلون، إذا جاء الجاني فتعلق بأستار الكعبة لا تتركوه (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) وهؤلاء هم: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن أبي سرح، فلقي الناس مقيس بن صبابة في السوق فقتلوه، ووجدوا عبد الله بن خطل معلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، فأما عكرمة بن أبي جهل ففر راكباً البحر هارباً، فهبت ريح عاصف كادت الأمواج أن تحطم السفينة، فقال صاحب السفينة: أخلصوا الدعاء؛ فإن آلهتكم لن تنفعكم هنا.

فقال عكرمة: (لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله علي إن أنجاني لآتين محمداً صلى الله عليه وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فقبل منه، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة جاء عثمان بن عفان بـ عبد الله بن أبي سرح فقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، حتى قالها ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى كل ذلك أن يبايعه، ثم بايعه بعد ذلك، والتفت إلى أصحابه فقال: أليس منكم رجل رشيد! إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه.

فقالوا: يا رسول الله! هلا أعلمتنا بما في نفسك -وفي اللفظ الآخر قالوا: هلا أومأت إلينا بعينك- فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) وسماها خائنة؛ لأنها إنما تكون من خلف ظهر صاحبها، لذلك سماها خائنة، فكل رجل يغمز لآخر في غفلة صاحبه فهو خائن، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]، فما غدر قط صلى الله عليه وسلم لكنه قد ينتقم بعدما يعذر مرة ومرة ومرة، ثم بعد ذلك إذا استيقن من لؤم الرجل أو الخصم أخذه على حين غرة؛ لأن الحرب خدعة، وهذا لا ينافي ما قلت من أنه صلى الله عليه وسلم ما غدر قط، فلو أخذ رجلاً غيلة أو أمر أن يؤخذ غيلة فقد أفضى إليه مراراً، كـ عمر بن أبي عزة مثلاً، كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشبب بنساء المسلمين، فظفر به فهم أن يقتله، فطلب العفو وقال: يا محمد! كن خير آخذ ولا أعود، فتركه فعاد، فظفر صلى الله عليه وسلم به فقال له: هذه لا أعود، فتركه، فأغراه المشركون فشبب بنساء المسلمين، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب العفو منه فقال: (لا، والله لا أدعك تمشي في طرقات مكة تقول: ضحكت على محمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وأمر به فقتل).

صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَذَا وَالزِّقُّ مَلآنُ وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ من أعذب ما قالته الشعراء هذا الذي قاله قريط بن أنيف، أبيات نحتاج إليها اليوم لاسيما في هذا الضعف الذي يعيشه المسلمون وهم يتكايسون، ليس عندهم فطنة، لكنهم يتكايسون، يرون عدوهم يلعب بهم، ومع ذلك يطلبون وده، وكلما زاد في إهانتهم زادوا طلباً لوده ولرضاه وصفحه، وما كان هكذا السلف الأول قوله: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ شخص يجهل عليك، كل يوم يضربك فتقول له: الله يسامحك، يضربك مرة أخرى.

فتقول: الله يسامحك، يعتدي على عرضك فتقول: الله يسامحك لا.

(وَبَعْضُ الْحِلْمِ عند الجهل): يعني هذا ليس أوان الحلم ولا مكانه عندما يجهل عليك شخص ويشتمك ويضربك (لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ): هذا إذعان واستسلام، ليس حلماً ولا له علاقة بالحلم.

وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ أعطيته الإحسان مرة واثنتين وثلاثاً، ولم تجد إلا الغدر ما بقي إلا الانتقام.

وعلى هذا تحمل كل الأحاديث التي وردت في هذا المعنى، كمقتل كعب بن الأشرف، فقد كان رجلاً شاعراً وكان يهودياً، وكان يؤذي الله ورسوله، فلما فاض الكيل وبلغ السيل الزبا، وتجاوز الرجل كل الحدود، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله)، وهذه كانت كافية ليعلن المسلمون النفير العام (إنه آذى الله ورسوله).

في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف، وهذا الحديث أذكره ليبكي الحر على نفسه، الحر الذي لا يجد طريقاً إلى إعادة شرفه مرة أخرى، أقل ما يفعله أن يبكي على نفسه.

روى الشيخان من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ جاءني غلامان: واحد عن يميني، والآخر عن شمالي، فقال لي أحدهما -وأسر لي حتى لا يسمع صاحبه-: أي عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا بن أخي؟ فقال: بلغني أنه يسب رسول الله.

والله! لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.

قال: فعجبت من مقالته، ثم أسر لي صاحبه فقال لي مثل مقالته، قال: فبينا أنا كذلك إذ رأيت أبا جهل يزول في الناس - يعني: يذهب ويأتي مضطرباً- فقلت: هذا صاحبكما، قال: فانقضا عليه ضرباً بالسيف فقتلاه، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته، وتنازعا -كل واحد يقول: أنا الذي قتلته، لأن قتل عدو رسول الله شرف، فكل منهما يريد أن يسبق إلى هذا الشرف- حتى جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتكمان إليه فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فقال: أرني، ثم قال تطييباً لخاطرهما: كلاكما قتله) غلامان! حتى أن عبد الرحمن بن عوف قال: (وجدت نفسي بين غلامين تمنيت لو كنت بين أضلع منهما) كأنه يقول: كنت أتمنى أن يكون على يميني شخص ضليع وعلى يساري كذلك، لكن على يميني غلام صغير وعلى شمالي غلام صغير.

قال: (بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيته لا يفارق سوادي سواده -يعني: لا يفارق شخصي شخصه، حتى يموت الأعجل منا).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله) انتدب له محمد بن مسلمة وأبو نائلة - محمد بن مسلمة ابن أخته، وأبو نائلة أخوه من الرضاعة- فقالا: (يا رسول الله! هل تأذن أن نقول له شيئاً -يعني أن نخدعه بالكلام-؟ فأذن صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه محمد بن مسلمة فقال: جئتك أستلف منك وسقاً أو وسقين من شعير، فإن هذا الرجل قد عنانا، فقال كعب مبتسماً: وأيضاً والله لتملنه -يعني: أنتم لم تروا شيئاً بعد- فقالا: إننا لا نريد أن نتركه حتى نرى عاقبة أمره، وجئنا نستسلف منك.

قال: ارهنوني نساءكم فقالا له: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!) (فقال: ارهنوني أبناءكم.

فقالوا: هذا عار علينا، يسب الولد يوماً فيقال: رهن بوسق من شعير! ولم يتركوا له خياراً يعرضه، بل هم من عرضوا عليه قالوا: ولكن نعطيك اللأمة).

اللأمة: هي درع الحديد الذي يلبسه المقاتل ليقي نفسه ضربات السيف، وهذا عرض ذكي، لأنهم أجمعوا قتله، لكن عندما يأتون بالأسلحة والرجل لم يتفق معهم على الأسلحة، سيشعر أنهم يريدون أن يغدروا به.

(قالوا: بل نأتيك باللأمة، فاتفقوا، حتى كان اليوم المعلوم بينهم، فجاءا في نصف الليل فناداه أبو نائلة فقال: يا كعب! انزل، وكان كعب حديث عهد بعرس، فقالت له امرأته: إلى أين في هذه الساعة؟ قال: إنما هو رضيعي أبو نائلة، وابن أختي محمد بن مسلمة.

فقالت المرأة له: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم.

قال: إنما هو أخي أبو نائلة، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب -عار عليّ أن يناديني أحد ولا أنزل، ولو أن اثنين تعاركا وقال أحدهما: أغيثوني، وأنا لا أعرفهما لكان ينبغي علي أن أنزل لنجدته نخوة العرب! - فنزل وهو ينفح عطراً، فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم عطراً، أتأذن لي أن أشم رأسك، فشم رأسه