للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرار من الله لا يكون إلا إليه]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

إن عنوان هذه المحاضرة (ففروا إلى الله).

ولقد بدا لي أن أعطي إطلالة عامة أمهد بها للدعاة الذين يأتون فيما بعد إن شاء الله عز وجل بتبيين معنى الفرار إلى الله، وأيضاً ذكر أقسامه، وكيف نفر إلى الله تبارك وتعالى، فقد رأيت أن هذا أعون على فهم مضمون هذا الأسبوع بما يتفق مع هذا العنوان.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥٠] آية وردت في سورة الذاريات لكنها من أعجب الآيات، إذ إن الفرار لا يكون إلا (من)، ولا يكون (إلى)؛ لأن الذي يفر إنما يفر لأنه خائف هارب، فالمناسب أن يفر (من)، لا يفر (إلى)، وقد عُدي هذا الفعل بحرف الجر (من) في القرآن الكريم في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨] وقال موسى لفرعون: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:٢١]، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:٤٩ - ٥١]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:٨] فالفرار لا يكون إلا (من)، والعجيب أن الآية السابقة عُدي فيها هذا الفعل بـ (إلى) وهذا غير معهود، فترى ما هي النكتة في تعدية هذا الفعل بحرف الجر (إلى)؟!! إذا استعرضت الآيات التي سبقت هذه الآية، والآيات التي تلت هذه الآية ظهر لك هذا المعنى بجلاء.

إن الله تبارك وتعالى هو الوحيد الذي تفر منه إليه؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:٣٣] هذا تمام الإحاطة بالعباد، فالله محيط بالسموات والأرض فإذا أردت أن تفر منه فإلى من تذهب وهو محيط بالعالمين؟! تفر منه إليه، ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعلن هذا الفرار إلى الله كل ليلة، الأذكار الموظفة التي علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذكار النوم كما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم نم على شقك الأيمن، وقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) هذا هو الفرار (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت).

لما تقول هذا الذكر في كل ليلة فكأنك تستحضر هذا الفرار إلى الله عز وجل، وسنذكر النكتة بذكر لفظ الفرار (إلى) دون غيره، مع ما في الفرار من إشارات الرعب والهلع.

فأنا عندما أفر فإنما أفر (من)؛ لأن الذي يطلبني يريد إهلاكي؛ فأنا أفر منه، فإذا توجهت إلى الله عز وجل وهو غاية المطلوب فالمفترض أن أستريح، والمفترض أن يطمئن قلبي، فيعبر بلفظ آخر غير لفظ الفرار الذي يقتضي الرعب والهلع والفزع، فلماذا عبر أيضاً بلفظ الفرار وعدي بـ (إلى)؟ أي رجل فار له جهتان: مهرب، ومطلب؛ مهرب يهرب منه، ومطلب يرجوه.

من أول قول الله عز وجل: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:٣١ - ٣٧] هذه أول واحدة.

{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:٣٨ - ٤٠] وهذه الثانية.

{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:٣٨ - ٤٢] وهذه الثالثة.

{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:٤٣ - ٤٥].

{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:٤٦].

فما سبق كان هذا كله إهلاك، ثم قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:٤٧] والله إن ترتيب هذه الآيات عجيب! {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٤٧ - ٥٠] (ففروا) يعني هناك إهلاك مستمر، فهذا هو مقتضى الفرار.

والعجيب أنه لم يذكر الجهة التي تفر منها، إنما ذكر الجهة المطلوبة، وفي هذا نكتة حدد الجهة المطلوبة، ولم يذكر الجهة التي تهرب منها لماذا؟ لأنها واضحة، من أول قصة قوم لوط عليه السلام بيان من الله بوجود إهلاك فبعدما تقرأ هذه الآيات، وتعلم أنك إن أعرضت مثل هؤلاء حاق بك ما حاق بهم، إذاً قد وضحت الجهة التي منها تهرب وهي العذاب.

لكن تخلل السياق -ما بين (ففروا إلى الله) وإهلاك القوم- آيتان {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:٤٧] بـ (أيدٍ) أي: بقوة، (وإنا لموسعون) هذا اللفظ إما من التوسعة أو من السعة، واللفظ يحتمل، (وإنا لموسعون) من التوسعة على العباد، ومنه قول الله عز وجل: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:٢٣٦]، أو من السعة التي هي البسط: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:٤٧].

فإذا استحضرت قول الله عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:٥٧] ظهر لك عظمة الله عز وجل، وأن إهلاك القوم من أيسر ما يكون، إذ إن السماء -وهي أعظم خلقاً من الأرض ومن الإنسان- الله عز وجل يوسع فيها، يوسِّع أرزاقها، ويوسِّعها هي نفسها، فهذا إظهار لقدرة الله عز وجل وعظمته، وتأكيد بأن إهلاك الخلق من أيسر الأمور عليه عز وجل {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:٤٨] فإذا كان الأمر كذلك {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠].