للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الصدقة]

الفائدة الثانية: وهي الصدقة، وفيها أدلة كثيرة جداً على فضلها.

من الأشياء التي افتقدها المسلمون اليوم: وجود بيت مال للمسلمين، أو على الأقل وجود بيوت تجمع هذا المال يكون عليها فقير، حتى يعرف كيف يصرف هذا المال، فتعجب عندنا في الجرائد عندما تقرأ أن فاعل خير تبرع بمائة ألف دولار لـ مصطفى أمين، هذا العلماني من الذي أدخله في الزكاة ومصارف الزكاة أو الصدقات؟! هؤلاء ينفقون على الفنانين والفنانات المتقاعدات، يقول: أدوا الرسالة على أتم وجه، ثم يضيعها هو، فينفقون من هذا المال على الفنانات، لا يصل هذا المال إلى مستحقيه، فهذا الرجل الذي أعطى هذا المال جاهل بمادته، والذي يتصرف بهذا المال أجهل منه.

والسبب في حدوث مثل هذه الفوضى: أن المسلمين تخلفوا عن القيام بأدوارهم، والزجاجة الفارغة إذا لم يملأها شيء ملأها الهواء، فأنت إذا لم تشغل هذا الحيز شغله غيرك.

كم خسر المسلمون بسبب الفوضى؛ لأن أموالهم ذهبت إلى غير مستحقيها، وكم من أصحاب المعاصي بدأ المعصية بسبب الحاجة، هناك بعض النساء الزانيات اللاتي تبن، لكن إحداهن تحكي أن سبب وقوعها في هذه الخطيئة ذهبت تطلب شيئاً فلم تجده، وسدت أبواب الخير في وجهها، فاضطرت -نحن لا نبرر شرعاً هذا الاضطرار- أن تسلك هذا الطريق، ووجدته طريقاً مليئاً بالأموال فسلكته.

وهذا يدل عليه قصة أصحاب الغار: الرجل الذي جاءته ابنة عمه تطلب منه مالاً، فراودها عن نفسها فأبت، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- ثم إنها رجعت إليه مرة أخرى فمكنته من نفسها رجاء أن تأخذ المال، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه.

ما الذي جعلها تأبى أولاً، وما الذي جعلها توافق ثانياً؟ نستطيع أن نستشف أن هذه المرأة أبت أن تفرط في عرضها؛ لأنها ظنت أنها إن يممت وجهها شطر أي رجل آخر فإنه يمكن أن يسد حاجتها، فكأنها مرت على الرجال تلتمس منهم هذا العون فلم تجد، وألمت بها سنة -أي: مجاعة شديدة- فاضطرت أن ترجع.

لو أن هذه المرأة وجدت أول مرة من يسد حاجتها لم تكن لتفرط في عرضها؛ لذلك نحن نقول: نحتاج إلى فقيه يقوم على هذا المال؛ لأن بعض الناس يشحون بصدقاتهم وزكواتهم على بعض أصحاب المعاصي، يقول: أنا لا أعطي إلا الملتزم أفلا يسرك أن ينضم رجلٌُ جديد إلى ركب المؤمنين؟ في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج-يعني بالليل- فوجد امرأة فوضع في يديها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على زانية.

فقال الرجل: الحمد لله على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة -كأنما شعر أن صدقته لم تقع في الموضع الذي أراد، أنا أريد أن أتصدق على المستحق، فتقع صدقتي في يدي زانية! كأنه رأى أنها ما أجزأته؛ لذلك عاود الأمر مرة أخرى وقال: لأتصدقن الليلة بصدقة- فخرج فوجد رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق.

فقال: الحمد الله على سارق! لأتصدقن الليلة بصدقة -لأنها وقعت من وجهة نظره في غير الموقع الذي أراد- فخرج فرأى رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على غني -أي: غير محتاج- فجاءه من يقول له: أما صدقتك فقبلت، وأما الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده) فهذا فضل الصدقة على أهل المعاصي: أما الزانية: فلعها تستعف وتحفظ فرجها إن وجدت من يكفلها.

وأما السارق: فلعله يتوب عن هذه السرقة، بأن وجد من يعطيه هذا المال.

وأما الغني: فلعله يغار ويخرج الذي عنده.

لذلك يجب علينا أن نعامل أصحاب المعاصي كأنهم مرضى، وبذلك فهم يحتاجون إلى نوع خاص من المعاملة، فلا تشح بمالك على بعض أهل المعاصي، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ فمن أملت فيه بإحسانك إليه أن يرجع وأن يتوب لا تتردد في ذلك، وإذا ظهر لك بعشرتك معه، وكثرة دعوتك له أن يراجع ربه تبارك وتعالى ويقلع عن هذا الإثم، أنه سيظل ماكثاً على ما هو عليه؛ حينئذٍ تتركه وتهجره.

فالصدقة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة)، وفي الحديث الصحيح: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) وهناك بعض الناس يجدون جبالاً من الحسنات ما توقعوها قط؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف.

يقول بعض الناس: أنا لا أخرج الصدقة حتى أرى من يستحقها.

لا يا أخي! أخرجها، المهم أن تخرج منك، وسواء وقعت في موقعها الذي أردت، أو وقعت في غير موقعها هذا ليس من شأنك، وهذا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للرجل في الحديث السابق: (أما صدقتك فقبلت)، المهم أن تخرج منك، لأن النفس مجبولة على الشح والمنع، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩].

هذه كلها عبارة عن ذرائع يخفي بها المرء شحه، أن يقول: أنا أريد أن أضع الصدقة في مكانها.

هذا في الحقيقة لو أنه ترك نفسه لعلم أن هذا جاء من جراء الشح.

الصورة التي يفكر بها المرء لاسيما في باب الإنفاق مهمة جداً في دعوة العوام إلى الرجوع إلى حظيرة الإسلام، ولقد والله رأينا أناساً كثيرين يبذلون هذا لله تبارك وتعالى في الصدقة؛ فيعوضهم الله عز وجل أفضل منه.

قصة الطالب المشهور الذي كان يعمل مهندساً لصيانة المكائن في شركة الدخان، وما كان يعرف حكم الدخان، وكان هذا الرجل كثير الصدقة، ويتصدق من كسب يده، فكأنما خاف على هذه الصدقات أن تذهب وتبدد؛ لأنها لم تأت من كسب طيب، فأراد أن يستبدل مصدر كسبه بمصدر طيب، لكن ماذا يعمل وهو مهندس ولا يجيد إطلاقاً إلا هذه الصناعة، أول ما علم أن العمل في هذه الشركة لا يجوز ما ترك مباشرة، لأنه لابد أن ينفق على أولاده، فانتظر حتى اشترى له عربية -هذه التي يدفعها الرجل بيده- واشترى بعض الطماطم والبطاطس وكل هذه الأشياء، واقترض هذا المبلغ، وهو رجل مهندس -هذه القصة حدثت في أواخر الستينات، طبعاً في أواخر الستينات كانت الشهادة مهمة جداً، والآن ليس لها قيمة، وإن كانت شهادة جامعية عالية فإنها ليس لها قيمة، إنما كان لها قيمة عظيمة جداً في أواخر الستينات وأوائل السبعينات- وصار يدفعها في شوارع الجيزة، هذا الرجل الآن يعد من أكبر الأغنياء الموجودين بمصر.

ويحكون عنه أشياء كثيرة في التصدق والبذل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته يوماً: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فكان أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يقسن أيديهن، وكن يعتقدن أن التي يدها أطول هي التي تلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وتكون أول من يموت بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ماتت زينب رضي الله عنها، وهي أول زوجاته لحوقاً به، وكانت قصيرة، وقصر الطول يتبعه قصر الأعضاء، فعلمن حقيقة الحديث، وأن الأمر ليس المقصود طول اليد، إنما طول اليد بالصدقة؛ لأن زينب رضي الله عنها كانت كثيرة الصدقات، فكأن لها اليد الطولى، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

فمن ترك شيئاً لله تبارك وتعالى عوضه الله عز وجل خيراً منه.

فذلك الرجل تصدق بثلث ماله على الفقراء والمساكين الذين لهم حق في هذا المال.