للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرار من الجهل إلى العلم]

المرتبة الأولى: الفرار من الجهل إلى العلم عقداً وانسياقاً، ومن الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.

فالذي يريد أن يفر إلى الله عز وجل يتأكد من تحقق هذه المنازل، فمطلع كلامه: (الفرار مِن من لم يكن) أي: من المخلوق، والمخلوق لم يكن له وجود قبل ذلك، أو الفرار من النار، والنار مخلوقة، فأنت تفر مِن من لم يكن إلى من لم يزل وهو الله عز وجل {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠] وهو هنا يترجم معنى الآية، فرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو ثلاثة مراتب: الفرار من الجهل إلى العلم، وهذا الذي ذكره أبو إسماعيل مذكور في نفس الآية {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥٠] والنذارة لا تكون إلا بعلم {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:٤٥] فكيف تفر من شيء لا تعلم أنه يعطبك ويهلكك؟ إذن لابد من العلم للفرار، وشرط النجاة بالفرار العلم.

والملفت للنظر أيضاً: أن هذا المقطع من آخر الآية تكرر بألفاظه في الآية التي بعدها! {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥١] فهذا يدل على أن الفرار أول ما يكون من الشرك إلى التوحيد، إذ إن آية الفرار أعقبت بهذه الآية: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الذاريات:٥١] إذاً: على هذا كيف نصل إلى التوحيد؟ {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥١]، هذا يقتضي منا أن ندرس الوحي؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:٤٥] إذاً الفرار من الجهل إلى العلم.

والعلم بالله عز وجل وصفاته أول ما ينبغي على العبد أن يطلبه للفرار إليه، ولذلك يقلب المرء كفيه عجباً لما يقرأ مذاهب أهل البدع في معرفة الله عز وجل، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأنهم ركبوا عقولهم في طلب معرفة الله عز وجل، حتى إن المعتزلة جعلت للعقل منزلة فوق منزلة الوحي، فهم يقولون: إن الله عز وجل تعبدنا بالعقل، وإذا لم يكن عندنا عقل سديد ما انتفعنا بالوحي، فيقولون: العقل ثم النقل.

فقاسوا قياساً من أعجب ما يكون؛ إذ قاسوا الغائب على الشاهد، وهو قياس باطل بإجماع أهل العلم، قياس الغائب على الشاهد هذا قياس باطل؛ لانفكاك الجهة، فإن الله عز وجل ما رآه أحد، فإذا أثبت لنفسه صفة فكيف تنفيها أنت لأن لك نفس الصفة؟! فحادوا بذلك عن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وأنت إذا أردت أن تفر لابد لك من طريق تسير عليه، وهذا الطريق لا يتعدد، بل هو طريق واحد فقط، كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر به في كل خطبة يخطبها أمام الصحابة، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) الطريق الذي يسلكه الفار إلى الله عز وجل طريق وحيد، إذا لم تعرف رسم هذا الطريق ضلت بك السبل.

أيها الهارب الذي طرفك منتبه دائماً، لا تكاد تغمض عينك، إن هناك من يطلبك، والطريق إلى الله عز وجل ليس كما قال المبتدعة بعدد أنفاس البشر، بل الطريق إلى الله عز وجل طريق واحد فقط، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

إذن إذا أردت النجاة لابد أن تعرف ماذا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تكلم هذه الكلمة، ثم ضم إليها قول الإمام مالك لما جاءه رجل فقال: (يا إمام! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة.

قال: إني أريد أن أحرم من عند القبر -قبر النبي صلى الله عليه وسلم- ومن مسجده، فقال مالك له: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة.

فقال: يا إمام! بضعة أميال أزيدها؛ أبتغي الأجر بها أفتتن؟! فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله؟! ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] ثم قال قولته اللامعة المضيئة: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً).

فأنت انظر إلى سائر ما تعبد الله عز وجل به، هل كان هذا ديناً في القرون الثلاثة الأُول أم لا؟ فإذا بحثت فوجدت أن هذا الذي يأمرك به أي إنسان -كائناً من كان- ليس له وجود في القرون الثلاثة الأول، فإياك أن تعبد الله به (فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً أبداً).

إن اعتقادك أن هذا الشيء الذي لم يكن في القرون الثلاثة الأول ديناً طعن على كل تلك القرون، أنه فاتهم كل هذا الخير، وهذا فيه غمط لأشرف أمة أمة الوسط الذين مقدمهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

تعال إلى باب العقيدة الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) هؤلاء الثلاثة والسبعون تركز اختلافهم إلا في تعريف المؤمن والمسلم، والكافر والفاسق، فخلافهم كان في مسائل الإيمان والتوحيد، ولم يتركز على المسائل الفرعية، كالمسح على الخفين، والمسح على الجوربين، ومسح الرأس، وصفة الوضوء والتيمم.

إذاً بمقتضى هذه الكلمة: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) أيها الخوارج! الذين تخرجون الرجل من دائرة الإيمان بالمعصية، من سلفكم في هذا من القرن الأول؟! إن الخوارج -كما تعلمون- ظهروا في آخر القرن الأول.

فمن سلفكم أيها الخوارج من الصحابة؟ ومن منهم قدوتكم؟ وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة من وقع في المعصية، فعلى ذلك فإن الذين رجمهم النبي عليه الصلاة والسلام إذا كنتم تكفرون بالمعصية فيلزمكم أن تستدركوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتقولوا: يا رسول الله! كيف لم تكفر هؤلاء؟ يعني: المرأة التي رجمها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) فهل النبي صلى الله عليه وسلم كفَّرها؟ لم يكفرها.

لما ذهب إليهم ابن عباس وناظرهم وجادلهم، في تلك المناظرة المشهورة رجع منهم أربعة آلاف بعد مناظرة ابن عباس، وقد كانوا ستة آلاف قبل تلك المناظرة.

تصور أن هؤلاء يكفرون علي بن أبي طالب المقطوع له بالجنة، وهذه جرأة متناهية: أن يعرض للنص القطعي برأيه الفاسد! ويقول: هو إمام الكافرين؛ لأن المسألة عندهم إما أبيض أو أسود، قالوا: محا عن نفسه صفة أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

والخوارج أتباعهم هم جماعة التكفير والهجرة، وجماعة التوقف، وقد جربناهم ووجدناهم من أجهل الناس بالاستدلال، وبمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المعتزلة والجهمية الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟! أنا أبين لك لماذا تشعبت السبل بهؤلاء؟ لأنهم تركوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وركبوا عقولهم؛ فضلوا.

وأنا هنا أبين لك طريق الفرار، فأنت تريد لنفسك النجاة، وأمامك ثلاث وسبعون طريقاً، فأي الطرق تسلك لتنجو؟ أنا أضع لك الآن ملامح الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وأنت هارب إلى الله عز وجل، فهذا هو طريق النجاة الوحيد.

هؤلاء الجهمية الذين نفوا صفات الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟ الصحابة الذين نقلوا لنا أحاديث العقائد تكلموا فيهم، فكان عمرو بن عبيد إذا ذكر سمرة بن جندب يقول: وما تفعلوا بـ سمرة، قبح الله سمرة يقول هذا عن صحابي! هذه خطة جهنمية شيطانية، أول معول هدم في العلماء.

وجماعة التكفير أول شيء كانوا يفعلونه هدم العلماء، بحيث أنك لا تجد عالماً معتمداً تستطيع أن تنقل كلامه إليهم، فنقول لمثل هؤلاء: عاملونا بأصولكم لا بأصلونا، أنت يا بني تقرأ عليَّ مذكرة شكري -وهي مذكرة كانوا يحفظونها كالقرآن- وتقيم عليَّ الحجة بعالمك أنت، فلماذا أخذت بقول لعالمك ورميت بعالمي؟! خذ المسألة على أصولك.

وحتى إن منهم من كانوا لا يحسنون القراءة، مرة أحدهم ونحن نتكلم معه، يقرأ أمثلة، ثم قال: وعلى هذا فَقَس.

قلت له: يعني البيض؟! بينما الصحيح هو (على هذا فقِس) فهو رجل لا يحسن حتى القراءة.

فأقول: عاملني بأصولك هذا هو العدل، أنت لك عالم تحتج به وتقيم عليَّ الحجة به، وأنا لي أيضاً عالمي، فيقول: لا، هم رجال ونحن رجال.

فأول لبنة يهدمونها أنهم لا يرفعون الرأس بعالم، بل ينبذونهم نبذ النواة، وهكذا المبتدعة، يأتي عمرو بن عبيد مع ما كان فيه من الزهد، حتى أن المأمون كان إذا رآه تمثل ببعض أبيات يشيد فيها بـ عمرو بن عبيد الزاهد الورع، يقول: كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد كلكم يمشي رويد، اللص لا يسير بسرعة، إنما يسير سيراً هادئاً لماذا؟ لأنه يترقب ويتلفت، ماذا يسرق، ماذا يخطف، فيقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد رجل متجاف عن دار الغرور، ورجل زاهد وعابد وورع؛ ولذلك أهل البدع يخطفون قلوب العوام بهذا الزهد الذي يظهرونه.

فيقول: من سمرة؟ قبح الله سمرة.

والذين تكلموا في أبي هريرة وقالوا: (إنه يكذب) هم الرافضة الذين هم أشر الشيعة وغلاتهم، وقد كذبوا أبا هريرة في حياة أبي هريرة، فقال لهم: (يا أهل العراق! تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لكم المهنأ وعليَّ المغرم!! أشهد عدد هذا الحصى) كان يحدثهم بحديث فردوه عليه، وكانوا يكذبونه.

فأول لبنة: أنهم لا يحترمون الصحابة ولا يوقرونهم.

فنقول: هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا إلينا بيان الوحي، كم من ال