للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاعتصام بالكتاب والسنة]

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن مسعر وغيره عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لـ عمر: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣] لاتخذنا هذا اليوم عيداً، فقال عمر: (إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة، في يوم جمعة).

سمع سفيان مسعراً، ومسعر قيساً، وقيس طارقاً.

هذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله في أربعة مواضع من صحيحه، الموضع الأول في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، والموضع الثاني: في كتاب المغازي، في باب حجة الوداع، والموضع الثالث في تفسير سورة المائدة عند ذكر هذه الآية، والموضع الرابع: هو الذي نشرحه وهو أول حديث في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.

قلت قبل ذلك: إن الإمام البخاري رحمه الله له فهم ثاقب ونظر حاد في ترجمته لأبواب صحيحه، فوضع هذا الحديث في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، علاقة الترجمة بحديث عمر الواردة فيه الآية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣] أن الآية دلت على تمام الإيمان، فالإيمان له زيادة ونقصان، فأعلى زيادة في الإيمان هي كمال الدين، وأن تتمه في نفسك، وبقدر ما يكون لله عز وجل في قلبك يكون كمال الإيمان، فأراد الإمام البخاري أن يبين أن أوج الزيادة في كمال الدين.

(قال رجل من اليهود) وهذا الرجل اسمه كعب الأحبار، وكعب الأحبار كان رجلاً من علماء اليهود وأسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، فيحمل على أن كعباً قال هذا الكلام لـ عمر قبل أن يسلم، وهذا ظاهر من اللفظ: (قال رجل من اليهود لـ عمر)، وإذ ثبت أنه كعب فإذاً قال هذا الكلام لـ عمر قبل أن يسلم، وإما أن يكون أسلم ولكن نظر إلى أول حاله، كما في الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها حدث بينها وبين صفية بنت حيي خصومة، وضعف جمل صفية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زينب: (أعطها الظهر لتركب، فقالت له: أنا أعطي هذه اليهودية!!) -وهي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام- فكأن النظر بالنسبة إلى الحال الأول، وإن كان الوجه الأول أقوى، وهو أن كعباً سأل عمر رضي الله عنه قبل أن يسلم قال: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال عمر -في رواية للبخاري أيضاً- أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]) فأراد عمر أن يرد عليه فقال له: نحن ما قصرنا في اتخاذ ذلك اليوم عيداً، بل هي نزلت في يوم عيد، كما رواه الترمذي من حديث ابن عباس أن رجلاً قال لـ عمر هذا الكلام فقال: (نزلت في يومي عيد)، يوم عرفة ويوم جمعة، ومناسبة هذا الحديث لكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة الإشارة إلى أن الله تبارك وتعالى أتم دينه وأكمله، فلم تعتصم بغير الكتاب والسنة؟ أتطلب الهدى خارج الكتاب والسنة؟ والله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] إذاً لا عذر لك في الخروج عن الكتاب والسنة.