للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخطوات العملية المعينة على التمسك بهدي سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم]

السؤال

ما هي الخطوات العملية التي ينبغي للمسلم أن يسلكها حتى يسير على نفس منهج أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟

الجواب

كان وكيع بن الجراح يقول: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا عن كل مائتي حديث بخمسة.

وقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام يعمل به، حتى إنه روى حديثاً أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجام أجرة، فدعا الحجام فحجمه وأعطاه أجرة، ثم قال الإمام: ما كان بي من حاجة إلى الحجامة، لكن أردت أن أعمل بالحديث.

فمن سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن ينفذه حتى ولو كان بخلاف هواه، وهذه المسألة تحتاج إلى تدريب وممارسة.

وقد كان عبد الله بن وهب -الإمام المصري المعروف من تلاميذ الإمام مالك - يقول: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، والأصل أن المسلم لا يتوسع في مسألة النذر؛ لأن الأشياء المستحبة أو المباحة تصير فرضاً بالنذر، فلو نذر الإنسان أن يصوم الإثنين والخميس، صار في حقه بمنزلة رمضان؛ لذلك لا يستحب للإنسان أن يكبل نفسه بالنذر، وليكن في سعة.

لكن أحياناً قد يكون الإنسان متفلتاً، فهذا لا بأس أن يكبل نفسه بالنذر كنوع من الأدب، لكن لا يتوسع، فيقول مثلاً: نذرت لله أن أقرأ جزءاً من القرآن كل يوم، لكن يستحب له في النذر أن يستثني، فيقول: نذرت لله أن أقرأ جزءاً من القرآن كل يوم إلا إن عجزت، فإن عجز فلا يلزمه أن يكفر عن نذره.

فالإنسان كأسلوب من أساليب التربية ينذر أنه إذا سمع حديثاً نفذه بقدر استطاعته ولا يتجاوزه، وإذا كان له أولاد فإنه يحاول أن يربيهم على هذا المنهج ويختبرهم.

أحد الإخوة أراد أن يعلم ابنه الصغير أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام هو الأمر الأول، وأنه لا يجوز أن يقدم على أمره أحداً، فجلس معه ليلة، ثم قال له: إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يجب أن يطاع، وإذا أمرتك بأمر وأمر الرسول بأمر آخر، فيجب أن تخالفني وتطيع الرسول عليه الصلاة والسلام.

وعند ذلك طُرق الباب، فقال له أبوه: قل له أنني في الخارج.

فالولد لأنه صغير ولا يفقه هذه المسألة قال له: أبي ليس هنا.

فنهر الأب ولده وقال له: أليس هذا من الكذب؟ قال: نعم، من الكذب.

قال: ألم ينه الرسول عليه الصلاة والسلام عن الكذب؟ قال: نعم.

قال: إذاً ما هو الواجب عليك في هذه المسألة: أن تخالفني كما اتفقنا أو تطيع أمري؟ قال: بل أخالفك.

والولد كانت هيبة أبيه عنده كبيرة، فعندما يقول له: قل كذا -كذباً- فكان يطيع أباه، فيكذب، فيقول له أبوه: أليس كذا أليس كذا؟ حتى ترسخ في ذهن الولد مع مرور الأيام أنه لا يجوز مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام.

فانظر كم أخذ الولد من الوقت حتى تربى على هذا الأمر! فزرع السلوك يحتاج إلى فترة من العمر، وهو كالرياضة تماماً.

فتنفيذ النصوص يحتاج إلى ممارسة وإلى سمع وطاعة.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدينون بمخالفة الهوى؛ ففي غزوة تبوك تخلف أبو خيثمة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو خيثمة هو الذي تصدق بصاع من تمر فلمزه المنافقون كان أبو خيثمة متزوجاً بامرأتين، فلما دخل بيته وجد كل امرأة قد رشت الماء وجهزت الأكل والماء البارد، فتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بخ بخ! أنا بين زوجتين حسناوين، وماء بارد، وظل ظليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الريح والشمس، والله لا أدخل على أي واحدة منكما، جهزا لي الفرس، فجهز نفسه وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

هذا الرجل عندما وجد نفسه في نعيم، وحبيبه رسول الله في الريح والشمس، لم يتحمل؛ لأنه شديد الحب للرسول عليه الصلاة والسلام، لذلك لم يدخل العريش ولم يشرب الماء، وانطلق خلف النبي عليه الصلاة والسلام.

إن المهمة في غاية الصعوبة؛ لأن المعين على الخير قليل جداً في هذا الزمان، وقد كان الصحابة رغم شدة ما كانوا يعانونه لكن كانوا جميعاً متكاتفين على شيء واحد، فنحن في زمان الغربة الثانية نعاني أشد مما عاناه أسلافنا في الغربة الأولى، فقد كانوا في الغربة الأولى عندهم من الإيمان ما يلوذون به في حال الكرب لقد كان بلال رضي الله عنه يلوذ بإيمانه إذا شدوا عليه في العذاب، لكن نحن الآن ليس عندنا من الإيمان ما عندهم، وعلينا من الضغط نحو ما كان عليهم، ونحن نقول هذا الكلام حتى نبين وعورة الطريق، فإن العبد إذا علم أن الطريق وعر استعد له، أما إذا كان يظن أن الطريق ممهد إلى آخره فاعترضته عقبة؛ فإنه قد يصاب بإحباط.

ولذلك فإن بعض المسلمين الذين ينتسبون إلى الالتزام أول ما يصاب بمصيبة يسقط مباشرة؛ لأنه لم يتوقع أنه سيصاب بهذه المصيبة؛ لكنه لو علم أن هذا الطريق كله عقبات، وأنه لا بد أن يُبتلى فابتلي، فيكون قد وطن نفسه لذلك، فإن المفاجأة تضعف عزم القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم والحديث في البخاري بأخصر من لفظ مسلم -: (والله! لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة كان معه راحلته وعليها طعامه وشرابه، فظلت منه، فلما يئس استظل بظل شجرة ونام، فاستيقظ من نومه وإذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.

قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح).

ومما يدل على ذلك أيضاً: قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣]، ولو افترضنا أن هناك إنساناً يأخذ مرتباً جيداً، فإن هذا المرتب لا يُشعر الإنسان بسعادة؛ لأنه أول كل شهر يعرف أنه سيأخذ المرتب الفلاني، لكن لو أنه ذهب ليأخذ المرتب فقالوا له: ومع المرتب نصف شهر مكافأة.

فستكون فرحته بالمكافأة أعظم من فرحته بمرتب الشهر؛ لأنه لم يتوقعه، ولذلك يقول الله عز وجل:) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)؛ لأن فرحة المؤمن بالرزق من حيث لا يحتسب أعظم من فرحته بالرزق الذي يتوقعه.

وكذلك على الجانب الآخر لو حصلت مشاجرة بين رجل وجاره فلطمه مثلاً، فإن هذا لا يؤثر فيه مثلما لو حدثت مشاجرة بين الرجل وابنه فلطمه ابنه، فإن هذه تكون أقسى بكثير جداً؛ لأنه لم يتوقعها.

فأي شيء لا يتوقعه الإنسان يفت عزم القلب، سواء كان بالخير أو كان بالشر، فلذلك الإنسان الذي يمشي على هذا الطريق يجب أن يتوقع البلاء حتى لا يُصدم.

نقول هذا الكلام تنبيهاً على أن الطريق مليء بالعقبات مع عدم وجود المساعد على الخير؛ بل هناك من يحاول إبعادك عن هذا الالتزام، فأنت تتوقع مثل هذه الغربة، وتعلم أنه لا معين لك على الخير؛ فتستعين بالله تبارك وتعالى في تنفيذ كل حديث يبلغك عن النبي عليه الصلاة والسلام، حتى تصبح بعد فترة -إن شاء الله- من المتمرسين على العمل.