للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدب الحوار عند ابن تيمية]

إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

من الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: معرفة أدب الحوار.

فإن شيخ الإسلام رحمه الله بعدما ظهر عليه النضوج صارت حياته كلها معارك في كل الجهات، ولا شك أن هذه المعارك تخرج المرء عن حلمه أحياناً لصلابة المعارض، فأحياناً لا تستطيع أن تتحمل طريقة جدال الإنسان الذي أمامك، فتغضب عليه فتخرج منك عبارات نابية، وهذا لا يصدر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول في بعض المناظرات لخصومه: أنا أعلم كل بدعةٍ في الإسلام وأول من ابتدعها؛ وذلك لعنايته الفائقة؛ لأن هذا يحتاج إليه في الرد، فهناك بدع قد لا تحتمل الصبر عليها، ومع ذلك تجد أن التزامه بالحوار العلمي الهادئ شيء عجيب.

كان معه مرة غلام يتحدثون حول التكفير، ثم تطرق الكلام على تكفير الحاجب، وجاء الدور في الاستدلال بقول ابن عباس الصحيح عنه (كفرٌ دون كفر).

فقال هذا الغلام: ابن عباس رجل وأنا رجل، أي: نحن الآن في ميدان البحث العلمي الحر، فـ ابن عباس كما أنه رجل فأنا رجل، وكما أنه مخاطب بأدلة الشريعة فأنا أيضاً مخاطب بأدلة الشريعة، وأنا رجل لي اجتهادي ورأيي، فلا تحتج لي بقول ابن عباس.

وهذا أصل من أصول هذه الجماعة: أن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأن قول الصحابي إذا كان ليس بحجة فلم يبق إلا الكتاب والسنة، لكن بفهم من إذاً ندخل على الكتاب والسنة؟ بفهمي وبفهمك وفهم (س) و (ص) و (ل) و (ع) و (ض) و (خ) بفهم كل هؤلاء ندخل على الكتاب والسنة، ولو اختلفت أنا وأنت و (س) و (ص) و (ل) و (ع) أليس ينبغي أن يكون هناك حاكمٌ نرجع إليه عند الاختلاف؟ سيقول لي: الله والرسول صلى الله عليه وسلم، نحن لسنا مختلفين في هذا، لكن أنا معي حديث وأنت معك حديث، وأنا احتججت بآية من القرآن، وأنت احتججت بآية، فمن الذي يفصل في المسألة؟ فتركوا فهم الصحابي هذا الأصل الذي انبثقت ثلاثة أرباع البدع بسبب إهماله وتركه، وإنما تركوا عمل الصحابة أو فهمهم لأدلة الكتاب والسنة عمداً.

فيقول إذاً: أنا متعبد بالكتاب والسنة، وهو متعبد كذلك أي: نعم، والأمي الجاهل متعبد أيضاً، فكم رجل جاهل أمي أحسن منه في الاستدلال! ذهب مرة ثلاثة منهم يسألون عن زميلهم، وزميلهم يعرف قرية من قرى دمياط، فدخلوا وسألههم أبوه: تفضلوا، حتى يأتي، فدخلوا، فقدم لهم أكلاً، وبعدما أكلوا كسروا الأطباق وكسروا الملاعق، فدخل الرجل فرأى أمامه كأنه أمام هناك معركة حربية، وأشلاء المعركة موجودة، والأثاث مكسر كله، ما هذا يا جماعة؟ قالوا له: هذه الحاجات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان أذكى وأفضل منهم في الاستدلال، فعندما يأتي هو ويقول: إن ابن عباس رجل وأنا رجل، فقال بعض أصحابي في رد لطيف عليهم: طيب، خليك رجل وهو رجل، لكن تميز ابن عباس عنك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فأنت من دعا لك؟! هذا معه دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت ماذا معك؟ فيقوم هذا الغلام يماري ويقول لك: وما أدراك أن دعوة الرسول استجيبت؟ فأنكر عليه إخوته هذا الكلام، فعندما تجد شخصاً يقول مثل هذا الكلام ممكن تفقد أعصابك وأنت تكلمه، فشيخ الإسلام ابن تيمية كان يناظره أناس بأقوال لا يقولها الشيطان الرجيم، وكان يرد عليهم وهو واسع الصدر حليم، مع الحدة التي كانت تعتريه لكن في الله، حتى إن الذهبي رحمه الله قال: لو لان لخصومه لكان كلمة إجماع، فخصومه معترفون أنه بحر لا ساحل له، هو يغرف من البحر وهم يغرفون من السواحل انظر إلى التعبير! ومن خصومه: ابن الزملكاني نفسه، أول ما رأى ابن تيمية أنشد ثلاثة أبيات على البديهة لترفع ابن تيمية إلى مصاف العلم والمجتهدين، وقال ابن الزملكاني -الذي هو عدوه اللدود-: اكتملت في ابن تيمية كل آلات الاجتهاد على وزنها.

وأبو حيان النحوي صاحب البحر المحيط في التفسير والنحو كان في النحو واللغة أشهر من نار على علم، كان يتمنى أن يرى ابن تيمية، فلما رأى ابن تيمية أنشد أبيات شعر وترحيب بـ ابن تيمية أيضاً على البديهة، وظل ابن تيمية هو الإمام الأوحد؛ حتى حصلت مناقشة بين ابن تيمية وبين أبي حيان في النحو.

فلما حصل خلاف في جزئية من النحو، قال أبو حيان: قال بها سيبويه.

أي: كيف ترد على سيبويه؟! وسيبويه أشهر إمام نحو بصري، وكان هناك مدرستان: مدرسة بالكوفة على رأسها في ذلك الوقت الكوفي علي بن حزم صاحب القراءات السبع، وكان سيبويه في البصرة.

فلما قال له: قال بها سيبويه! قال له: ما كان سيبويه نبي النحو -يعني: سيبويه ليس معصوماً من الخطأ- ولقد أخطأ في ثمانين موضعاً في كتابه أنت لا تعرفها، فكان ذلك سبباً في وقوع الوحشة بينهما، فكان أبو حيان يذكره بكل سوء في كل مجلس بعدما كان البارحة يمدحه ويثني عليه، وهكذا حسد المعاصرة داء من أعظم الأدواء المانعة لوصول الحق، كل شخص يريد أن يكون هو الإمام، ويريد أن يأتي الحق عن طريقه؛ حتى يقال ويشار إليه بالبنان، هو الذي قرر المسألة، وأبرز الحق، وهذا كله مناف للإخلاص وتجريده لله سبحانه.

ولذلك صدق الإمام الشافعي رحمه الله لما قال: ما ناظرت أحداً على الغلبة -لم أناظره لكي أغلبه- وما ناظرت أحداً فوددت أن يهزم، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه.

هذا هو شأن العلماء، المهم: ظهور الحق للناس، أما أن يظهر على يد فلان أو علان فهذه مسألة جزئية لا ينبغي للعالم المخلص أن ينتظرها، لأنها جزء من حظ النفس، وهو حظ الشيطان من العلقة الموجودة في قلب ابن آدم.

فشيخ الإسلام ابن تيمية كان الكل معترف بجلالته، وكان يأخذ كلام أهل البدع من كتبهم، وهذا أقوى في إقامة الحجة.

وهذا ابن حزم كان على الأشاعرة نار تحرق وبحر يغرق، كان يصلي الأشاعرة بالنار، لكنهم دخلوا عليه؛ لأنه أخذ فكر الأشاعرة من أناس ينقلون عن الأشاعرة، لم يأخذ فكر الأشاعرة من كتبهم -من أهل الفكر نفسه- فالناقل يخطئ، فإذا أخذت قول الناقل وحاججته قال لك: أنا لا أقول بهذا، أخرج من كتبنا هذا القول، فيعجز المناظر أن يخرج هذا القدر من كتب الخصوم.

لذلك كان ينبغي لأي رجلٍ يريد أن يتصدى لعقيدة المنحرف، ويريد أن يتعرف على الفكر لا بد أن يأتي بكتب لأهل الفكر نفسه، لا يأخذ المسألة بواسطة، فإن الواسطة قد يكون متحاملاً، ويشوه الفكرة، فالوسيط يريد أن يقول: يا جماعة! الأشاعرة يقولون كذا وكذا وكذا هل تصدقون؟! وهو يبالغ بقصد التنفير من فكر الأشاعرة، فحمله هذا على الغلط عليهم، فيدخل الداخل منهم عليه بمطالبة الإثبات أن هذا من عقائدهم.

حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية لما أراد أن يناظر النصارى قرأ أناجيلهم، وأتقنها أكثر من الرهبان، بل تلميذه ابن كثير رحمه الله صاحب التفسير المشهور تأثر به جداً؛ لأن ابن تيمية كان إماماً فحلاً كبيراً، وابن كثير كان لا يزال صغيراً، ولد ابن كثير سنة (٧٠١هـ)، وابن تيمية توفي سنة (٧٢٨هـ)، لما مات ابن تيمية كان عمر ابن كثير (٢٧) سنة، كان لا يزال صغيراً، لم يتضلع بعد، وابن تيمية كان إماماً في الدنيا، ملأ الدنيا بعلمه، كان شيئاً طبيعياً أن ينبهر هذا الشاب الصغير بذاك الإمام الفحل الكبير، فتبنى بعض مسائل ابن تيمية.

فالذي أريد أن أقول: إن هذا الشاب الصغير بلغ من تطلعه أنه كان عارفاً بالإنجيل أكثر من النصارى، قال ابن كثير: فناظرت أحد النصارى.

قال: فكلمته فوجدته كالحمار، لا يعلم من دينه شيئاً.

وشيخ الإسلام له كتاب مذهل اسمه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، يقع في أربعة مجلدات، فقرأ في الأناجيل بحيث أنه تضلع في النصرانية.

فخذ الفكر من كتب أهله -لكن بشرط- أن تتضلع في كتب أهل السنة أولاً قبل أن تدخل إلى كتب المبتدعة، فأنا رأيت طالباً من طلبة الثانوية أتى يقول لي: أريد أن تدلني على كتاب، لأن معنا زميلاً نصرانياً في الفصل، وأريد أن أبين له فساد دين النصرانية.

فقلت له: هل تعرف كتاب الله عز وجل؟ قال: نعم.

قلت له: (الرحمن على العرش استولى) قال: لا.

(استوى)، قلت له: حسناً، (استولى) أي: (علا) هذا تأويل المعتزلة، هل هذا التأويل صحيح؟ قال: لا أعرف، قلت له: أنت لا تعرف إلهك الذي تعبده، فكيف ترد على النصارى؟ فالرجل ليس له درع واق كيف يحارب؟! رجل ليس عنده طوق نجاة كيف ينزل في البحر؟! لذلك شرط العلماء للرد على المخالف أن تكون على بصيرة من دينك، حتى إذا وقعت على موقف منه كان هناك ما يعصمك، وأصل الدليل في هذه المسألة هو ما صح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد