للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري]

قال بعض العلماء: (العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري).

يشير هذا العالم بهذا القول الموجز المختصر إلى أن العبد متبع لهواه، ففي الطاعة: قدري، يقول لك: أنا ربي قدر لي كذا، وعند المعصية: جبري، يقول: ربي كتب عليَّ كذا، أي أنه متبع لهواه، حيث كان هواه في معصية قال: قضاء وقدر؛ طالما فيها مصلحته وشهوته، وكلما زاد في العصيان يريد أن يفلت من العذاب يقول: كتب الله عليَّ ذلك، وأنا ماذا أفعل؟! قال قائلهم: جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين يقول: الجنين الذي ليس له كسب ولا سبب أليس يرزق؟ فأنت لماذا تسعى؟ كما أن الرزق جاء إلى هذا الجنين فسوف يأتيك، فهذا الرجل ليس عنده شيء من العقل؛ لأن هذا الجنين أخذ الطعام بسبب أكل الأم، ولو لم تأكل لمات الجنين، فهذا سبب، لكن قد يكون السبب من كسبك مباشرة وقد يكون بغير كسبك، لكن هو ظن أن السبب لا يكون إلا مباشراً؛ لذلك قال هذه الأبيات، وقال قائلهم الآخر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء كيف لا يبتل بالماء وأنت ألقيته مكتوفاً؟ يريد أن يقول: إن القدر كتفه، ثم بعد ذلك تضعه في نار جهنم، إذاً كيف يعمل؟ كتب الله عليه المعصية ثم يعذبه بها؟! هذا هو اعتراض الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على كل شيء، فلا قيمة للأخذ بالأسباب، لكن انظر إلى جيل الصحابة، فقد سألوا نفس السؤال لكن بصورة مختلفة تماماً، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ببقيع الغرقد، فلما دفنا الرجل -دفنا الميت- جعل ينكت بمخصرته في الأرض -معه عود ينبش به في التراب- ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار -انتهى جف القلم- فقال رجل: يا رسول الله! جف القلم بشيء كان أو يكون؟ قال: بشيء كان -بأمر فرغ منه- فقال: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا، فأما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة؟ قال له: لا.

اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اسكتوا عن هذا واستأنفوا العمل، قال علي بن أبي طالب: (فما كان أجد منا بعد سماعنا هذا الكلام (يعني: هذا الكلام جعله يجد أكثر، مع أنه لا يدري أهو إلى الجنة أم إلى النار صائر، لكن أي إنسان عنده عقل، وتدبر آيات الكتاب المنزل، وفهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام يفهم أن هذا الكلام ليس معناه ترك العمل والاتكال، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:١ - ٧].

إذاً: أثبت للعبد عملاً قبل التيسير: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٨ - ١٠] أثبت له عملاً قبل التعسير.

إذاً لابد للعبد أن يعلم أن الخاتمة مربوطة بالأولى التي هي السبب منه، هؤلاء الصحابة لم يقل أحد منهم: إن كان قدَّر عليَّ المعصية فلم يدخلني النار؟ لأن هذا الكلام البسيط الشديد معناه أن الله ظالم! ليس لها معنى غير هذا، إذا كنت تعتقد أنه حكم عدل -عدله مطلق- فلم تسأل هذا السؤال؟ لا تقل له: (لم) لأنه يفعل ما يريد، (لم) هذه تقال لمن يمكن أن تلومه على فعله، وهل لك اختيار مع الله؟! الله يفعل ما يريد، فلا يجوز أن تقول له: لم.

بل العبد يجب أن يتقرب إلى الله زلفى؛ حتى إن ابتلاه يكون ذلك مدعاة القرب، كما قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:٨٣] لماذا تركتهم وجئت على عجل؟ قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:٨٤] إنما عجلت لترضى، فدل على أن العجلة في الإياب إليه سبيل من سبل الرضا عن العبد، وقد قال الله تبارك وتعالى عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:١٩٣] الفاء هذه فاء التعقيب السريع، يعني: أول ما سمع أحدث إيماناً عقب القول مباشرة، إذاً: قربك إلى الله مهم جداً.

الذي يقول: إن كان كتب عليَّ المعصية لماذا يعذبني؟ يتهم ربه بالظلم؛ لأنه يجب عليه أن يقول أيضاً: وإن كان كتب عليَّ الطاعة فلم يدخلني الجنة؟ لا يقول هذا أبداً، لأن هذا في مصلحته، فهو في الطاعة قدري، وهذا هو نفس قول المشركين الأوائل: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:٣٥] وقارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] لولا أنني أستحق لما أعطاني الله، أعطاني لأنني أهلٌ لذلك، فقال الله تبارك وتعالى لهم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:٣٧] (إلا) هنا بمعنى لكن، أي: لكن من آمن فهو الذي له الزلفى.

إذاً الذي يقول: لولا أنني أستحق دخول الجنة لما أدخلني الله الجنة، هذا قدري؛ لأنه في باب المعصية جبري.

فنفهم من هذا أن العبد لابد أن يحدث سبباً حتى يكون له الأثر، وإذا لم يحدث السبب بطل الأثر، ولذلك قال الله تبارك وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام في وقعة بدر: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] ليس لمجرد أنك ألقيت بالسهم أنه أصاب، لا.

لأنه عليه الصلاة والسلام لما أمسك بقبضة من الرمل ورماها في وجوه الكفرة وقال: (شاهت الوجوه) ثم قال: (انهزموا ورب الكعبة) وفي الرواية قال الصحابي: (ما بقيت عين لهم إلا دخلها هذا التراب) أي قبضة هذه؟ قبضة تصل إلى كل هؤلاء! الله هو الذي أوصلها، كما أن المفسرين يذكرون في قوله تبارك وتعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] أن إبراهيم عليه السلام قال: (رب كيف يبلغ صوتي الناس كلهم؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ).

لابد أن تتكلم، ووصوله ليست مهمتك، توصيل الصوت من الله تبارك وتعالى.

يعني: أن العبد لابد أن يأخذ بالسبب؛ فإذا لم يأخذ بالسبب لا يتحقق الأثر.