للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشيخ الألباني وتجرده للحق وبعض ما لقي من الإيذاء]

وكان هذا العزم واضحاً حتى في تصميمه على آرائه الشكلية التي خالف فيها الناس، فعندما كان يقتنع بمسألة فقهية فلا يتركها أبداً إلا إذا ظهر له دليل آخر يرجعه عنها، حتى ولو أوذي بسببها، وهذا فيه دلالة على صلابة الشيخ رحمه الله في الحق، وحسبك أنه مع نباهته ومع شدة تأثيره في الناس عاش غريباً إلى أن مات، فالشيخ الألباني قبل أربع سنوات كاد أن يطرد من الأردن بسبب فتوى له حرفتها بعض الجماعات الإسلامية ممن يسيطرون على مجلس الأمة الأردني، وزعموا أن الشيخ الألباني يوجب على الفلسطينيين الهجرة من فلسطين وتركها لليهود.

وحتى أن بعض إخواني سمع هذه الفتوى في إذاعة إسرائيل، فالمذيع في إذاعة إسرائيل ذكر الشيخ الألباني وترجم له ترجمة لطيفة وظريفة وقال: إنه أكبر محدث في العالم الإسلامي، وقد أفتى بوجوب هجرة الفلسطينيين من فلسطين.

مع أن الشيخ الألباني ما أفتى بذلك، وإنما الفتوى خرجت على مقتضى السؤال الذي وجه إليه، وأنت تعلم أن العالم أسير السؤال، والجواب إنما يخرج على مقتضى السؤال.

السؤال الذي سمعته بأذني من السائل أنه قال للشيخ: إننا نعاني من الاضطهاد في الأرض المحتلة، ونخاف على أنفسنا، حتى لا يستطيع الواحد منا أن يقيم الصلاة في المسجد خوفاً على أهله؟ فقال له الشيخ: إذا لم تستطع أن تقيم الصلاة فيجب عليك أن تهاجر، فإن هذا النوع من الهجرة أوجبه جميع علماء المسلمين، وهذا النوع لم ينقطع: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ومن بلاد المعصية إلى بلاد الطاعة، ومن بلاد البدعة إلى بلاد السنة، فهذه الهجرة الواجبة ينبغي على المسلم أن يسعى إليها ولا تسقط عنه إلا بعجزه عن الهجرة.

فالجواب واضح، قال: إذا عجزتم عن عبادة الله فاخرجوا من دياركم وارجعوا إليها فاتحين.

وكاد الشيخ رحمه الله أن يطرد بسبب هذه الفتوى، لولا تدخل بعض كبار تلاميذه، مثل الشيخ: أبي مالك محمد بن إبراهيم الشقرة، وهو مدير المسجد الأقصى في الأردن، وخطيب مسجد صلاح الدين ومن أفضل تلاميذ الشيخ ومن أشدهم وفاءً له، وكان هذا الشيخ له حظوة عند الملك حسين، ودخل إلى الملك حسين أكثر من مرة، بل ما دخل الشيخ الألباني الأردن إلا بضمان الشيخ أبي مالك؛ لأنهم رفضوا أيضاً استقباله في الأردن، وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود لا يدري إلى أي بلد يدخل؛ لأن كل بلد ترفض دخوله.

ولما عقد مؤتمر السنة والسيرة النبوية عام (١٤٠٠هـ) هنا في مصر دعي إليه كل الناس إلا الشيخ الألباني، مع أن أغلب هؤلاء المؤتمرين الذين حضررا المؤتمر ليس لهم أي جهد يشكر في خدمة هذه الأمة فيما يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يدعى مثل هذا الشيخ العظيم؟ وظل هذا التجاهل الرسمي للشيخ الألباني حتى العام الماضي، فأعطوه جائزة الملك عن خدمة الحديث، وهو الذي شرف الجائزة، والجائزة لم تشرفه يوماً من الأيام، ولقد ظل الشيخ يخدم السنة أكثر من ستين عاماً وهو إمام للسنة وإمام للعقيدة وإمام في الفقه وفي تعظيم النبي، وظل رد الفعل الرسمي هذا ضعيفاً جداً، ولكن الله عز وجل جعل له من المحبة في قلوب المسلمين ما ظهر مقتضاه حين مات، فيوم موته كانت فجيعة، وكثير من الناس لم يصدق أن الشيخ الألباني رحمة الله عليه مات، ولقد وصلت كتبه إلى آخر مكان في الدنيا، وجعل الله تبارك وتعالى لها القبول في الأرض، ورزقه الله عز وجل حسن التصنيف، بحيث أنه لو عرض مسألة ما، فإنك تقتنع بها ولو كان الشيخ مخطئاً فيها، وإنك إذا قرأت كلامه وقع في قلبك أنه الحق، وهذا لم يبدع فيه إلا قليل من أهل العلم ممن رزق حسن العبارة في التصنيف.

فالشيخ رحمه الله ظل غريباً، ولم يتحرك بعز الدولة -أي دولة- إلى أن مات، وكان رأيه في حرب الخليج رأياً واضحاً، وقد أوذي بسببه أيضاً، ولم يتراجع فيه لأنه يعتقد أنه الحق في المسألة.

والشيخ الألباني رحمه الله كان إذا اعتقد مسألة أنها حق لا يفارقها أبداً ولو أدى ذلك إلى حرمانه من سكنى آمنة، أو إلى طرد من البلد، وكان ذلك أيضاً سبباً في محنته لما سجن في سوريا فإنه كان متزعماً للتدريس، وجمع الله عز وجل حوله الأفئدة، وكان رجلاً نابهاً، قال لي: كان عندي سيارة قديمة وكنت أطوف سوريا كلها بهذه السيارة، ومرة اختلف إخواني السلفيون في حلب -وكان هو يسكن في دمشق- فقالوا: إن لم تتدارك إخوانك تفرقوا.

وذهب إلى هناك وسهر الليل كله، وظل هناك أكثر من أسبوع حتى فصل النزاع بين إخوانه ورجع.

فكان قد أوقف حياته كلها لهذه الدعوة المباركة، ولما سجنوه استثمر وقته في السجن وأخرج لنا كتاباً وهو (مختصر صحيح الإمام مسلم رحمه الله) درس الكتاب دراسة دقيقة، وجرد الكتاب من أسانيده، وجمع وضم الروايات بعضها إلى بعض، وأخرج مختصر صحيح مسلم بقلمه، ولا أظن أن هذا الكتاب قد طبع حتى الآن.

والذي طبع هو مختصر صحيح مسلم بتحقيق الشيخ الألباني، أما (مختصر صحيح مسلم) للشيخ الألباني نفسه فلم يطبع.