للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه]

ودونك هذه القصة الرائعة التي قصها الله تبارك وتعالى علينا في القرآن لأبر الناس بأبيه، رجلٌ أدى حقوق البنوة وأدى حقوق العبودية، ولم يخلط بينهما، وهو إبراهيم الحنيف عليه السلام، أدى حقوق البنوة: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:٤٢ - ٤٥]، أربع مرات يناديه: (يا أبتِ) يستجلب الحنان، ويستجلب عطف الوالد {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:٤٦].

{قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤٧].

انظر إلى هذه الثقة، (كان بي حفياً) أي: إذا أقبلت عليه أقبل عليَّ أكثر من إقبالي عليه، فأنت إذ خرجت من يدي، وإذ لا أستطيع أن أفعل معك شيئاً، فما بقي إلا الله، وهو حفيٌ بي، كما قال زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:٤] أي: ما تعودت أن أشقى أبداً إذ دعوتك، بل كلما دعوتك فرجت عني، وكلما دعوتك جاء الخير، فتعودت أني كلما دعوتك وجدت الخير كله، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:٤] ما تعودت أبداً أن أشقى لما أتوجه إليك.

فأدى إبراهيم حقوق الأبوة، فلم يستطل على والده، ولم يسبه ولم يشتمه ولم يهجره: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥]؛ لأن المصاحبة بالمعروف من حقوق الوالد، وبقي حق الله عز وجل وهو ألا تكفر به، وأن لا تطيع في معصيته أحداً كائناً من كان، حتى لو كان الوالد عميق الجذور في نفس الولد، لكن هذا لا يجيز لك أن تعصي ربك، إذ أن حق الله عليك أوجب من حق والدك عليك، فإذا تعارض الحقان قدم أوجبهما وأعلاهما.

وقام بحقوق العبودية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٧٤] بعض الناس يقول: إن آزر في اللغة الأعجمية معناها (أف) فيكون المعنى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه أف أتتخذ أصناماً آلهة)، ولئن جاز أن يقال هذا فالذي يقطع بخطأ هذا التأويل السنة، والسنة مهمة في تفسير القرآن، ترى الرجل واسع العلم بالسنة إذا فسر القرآن كان على تفسيره من البهاء ما ليس على تفسير الجاهل بالسنة معلوم أن كثيراً من المواضع في القرآن مجملة، وفصلها النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤]، فمهمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين ما أجمله الله في الكتاب، فقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ما يقطع كل ريبٍ بخطأ هذا التفسير، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وقد قضى الله عز وجل عليه بالنار، فيقول له إبراهيم: ألم آمرك ألا تعصيني؟ قال: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام إلى ربه، فيقول: ربِّ! قد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أن يدخل أبي النار؟!) أي: فهذا خزيٌ عظيم، فلذلك يستشفع لأبيه عند ربه (فيقول الله عز وجل لإبراهيم: إني حرمت الجنة على الكافرين انظر! فينظر تحت قدميه فإذا أبوه ذيخاً)، الذيخ: الضبع الذكر، تحول أبوه إلى ضبع، مرتكسٌ في نتنه وفي رجيعه، منتن، ومعروف أن الضبع من أقذر الحيوانات، فيدعو عليه إبراهيم ويتبرأ منه، ويدخل النار، وعجباً له كيف يقول له: اليوم لا أعصيك {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١].

فإبراهيم عليه السلام أدى حقوق العبودية؛ لأنه توجه إلى ربه وأنكر ما عليه أبوه، وهذا شيء عجيب.

كلمة (الإله) مشتقة من (أله، يأله) ومن (وله، يوله)، الولوه: شدة التعلق والحب، تقول: عنده وله، أي: عنده محبة شديدة وتعلق شديد،

السؤال

هذا الحجر الذي تحبه حتى تصير عاشقاً للحجر.

قد يعشق العاشق من يبادله الحب، لكن هذا الحجر الذي تعشقه وتموت في حبه؛ ما هي الخصائص التي في هذا الحجر؛ ولذلك أنكر عليه قائلاً: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:٤٢]، أنت تعلم أنه عندما يكون حبيبك أطرش فإنك لا تشعر بلذة، ستقول له: أحبك فلا يتأثر، وتسمعه الكلام الجميل التي يستثير الأعصاب ويهيج المحبة فلا يستجيب، فهو أطرش أصم؛ إذاً ستجد الكلمات كلها تموت على لسانك أنت، لأنه أصم لا يسمع.

والعين واسطة الجمال، أحياناً يحب القلب بمجرد النظر فقط، وربما يحب بالسمع، يشكو أحد الناس أنه بينما كان يرفع سماعة الهاتف كلمته امرأة صوتها غزا قلبه، فالسمع والبصر أيسر طريقين إلى القلب، وأشدهما البصر.

ولذلك تجد الذين امتحنهم الله عز وجل بالعمى أذكى قلوباً من أصحاب العيون المبصرة، وأقرب إلى سواء السبيل؛ لأن هذا الطريق الخطير الموصل إلى القلب مسدود، لا يلجه شيطان من الإنس أو الجن.

إبراهيم عليه السلام يتعجب: كيف يعبد أبوه ما لا يسمع ولا يبصر؟!! ومع فقده السمع والبصر، لا يستطيع أن يدافع عنك (ولا يغني عنك شيئاً) فقل لي: ما هي الميزة التي فيه؟ قل لي أين ذهبت عقولكم؟! ولذلك السؤال كان عجيباً واستنكارياً: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٧٤]، أي: فواضح جداً أن هذا ضلال مبين.

ثم ذكر الله سبحانه وتعالى ما منَّ به على إبراهيم