للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استحباب تلطف طالب العلم مع شيخه]

هذا الحديث اشتمل على جملة من الفوائد، أظهرها ما سنسوقه في هذا الدرس إن شاء الله تبارك وتعالى.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما زلت حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وللبخاري أيضاً: قال ابن عباس: مكثت سنةً أريد أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين التي قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]، فتمنعني هيبته، فقال ذلك لـ عمر.

فقال له عمر: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فسلني.

قال ابن عباس: (حتى حج وحججت، وعدل وعدلت) أي: وهم في الطريق قضى عمر بن الخطاب حاجته، فتبعه ابن عباس بإداوة، ليتوضأ منها عمر، وسأله وهو يصب عليه الماء سأله هذا السؤال.

وفي هذا دليل على استحباب أن يتلطف طالب العلم بشيخه، وأن يتحرى مواضع خلو باله فيسأله، فإن كثرة سؤال الشيخ -لاسيما وهو متضجر- تزعجه، وقد كان هذا مذهباً لبعض الطلبة المجدين، كأمثال ابن حبان رحمه الله، فقد كان يصحب شيخه ابن خزيمة رحمه الله، ولا يتركه سفراً ولا حضراً، وكان يكثر عليه السؤال، فأكثر عليه ذات مرةٍ في سفرٍ، فقال له ابن خزيمة: (تنح عني يا بارد!) فكتبها ابن حبان.

فقيل له: أتكتبها ولا فائدة فيها؟! قال: لا أدع لفظاً يخرج من فم الشيخ إلا كتبته.

فالصواب في هذا: أن الإنسان يقبل على شيخه في وقت فراغه ونشاطه وخلو باله، وقد كان طلبة الحديث يزعجون مشايخهم كثيراً، وأشهر من أزعجوه في ذلك هو الإمام سليمان بن مهران الملقب بـ الأعمش، واستعمل معهم الشدة كثيراً، حتى ذكر الخطيب رحمه الله في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أن الأعمش اشترى له كلباً، فكان إذا سمع وقع نعالهم خارج البيت أطلق عليهم الكلب، ولك أن تتخيل من يجري أمام الكلب من أمثال شعبة وأمثال هؤلاء الكبار كـ عبد الله بن إدريس! فما أن يدخل الكلب الدار حتى يرجعوا مرةً أخرى، فيطلق عليهم الكلب، وهكذا كان يحول بينه وبينهم هذا الكلب، فجاءوا ذات مرةٍ وهم يتوجسون أن يخرج عليهم الكلب، وإذا هم يقتربون شيئاً فشيئاً ولم يخرج الكلب، فهجموا على الدار ودخلوا عليه، فلما رآهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! (يعني: الكلب).

وكان الأعمش يكره أن يقعد بجانبه أحدٌ في أثناء الدرس، فجاء رجلٌ من الغرباء، فجلس بجانب الأعمش وهو لا يدري أن الأعمش يكره ذلك، فأحس به فتركه، فكلما قال: (حدثنا) بصق عليه (فلان) بصق عليه.

والرجل ساكت حتى قضى الأعمش درسه! ويذكر الخطيب في هذا الكتاب أخباراً كثيرة أخرى عن الأعمش أنه كان يستعمل الشدة، وكان إذا غضب عليهم يقول: شرٌ أناسٍ على ظهر الأرض! فأنت -أيها الطالب النبيه- إذا أردت أن تستفيد، فاعلم أن الفوائد لن تتم إلا بصفاء الذهن، فعليك بالرفق؛ فإن القلوب إذا كلت عميت لأن هذا الإرهاق يحرمك خيراً كثيراً، ولا يحملك جدك ونشاطك ونهمك على أن تكثر من مماراة شيخك، فقد قال الزهري رحمه الله: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً؛ لكثرة ما كان يماري ابن عباس).

فـ أبو سلمة كان كثير المماراة، فكلما تكلم ابن عباس بكلمة كان أبو سلمة يماريه ولا يسلم له ويناقشه ويعارضه، ويظهر معارضات وإلزامات، فمن كثرة ما كان يماري ابن عباس زهد ابن عباس في إفادته وفي مجالسته: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً لكثرة ما كان يماري ابن عباس).

بخلاف ابن جريج فقد لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، وقال: قد استخرجت ما عند عطاء من نصح، ولم يتضجر منه عطاء بن أبي رباح، لماذا؟ لأنه كان يترقب خلواته، فإذا رآه صافي الذهن مقبلاً سأله.

وكذلك فعل ابن عباس رضي الله عنه، فقد ظل سنةً يهاب أن يسأل عمر بن الخطاب حتى رأى أنه بمفرده معه (فانتهز الفرصة) فبادره بهذا السؤال، وقدم بين يدي السؤال هيبته إياه، فقال: (يا أمير المؤمنين! إني أريد أن أسألك منذُ سنةٍ فتمنعني هيبتك.

فقال: يا ابن أخي! إذا كان عندي علمٌ فسلني.

فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]؟ فقال له عمر: وا عجباً لك يا ابن عباس!) وإنما تعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ابن عباس لما كان لـ ابن عباس من الفضل في البحثٍ عن التفسير وعن التأويل، فعجب عمر أن يخفى عليه مثل هذا الموضع مع شهرته، لاسيما وقد كان عمر حسن الرأي في ابن عباس برغم صغر سنه، وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه، عن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فغضب أحدهم -وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه- وقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! -أي: في مثل سنه- قال: فسمعها عمر فأضمرها -أي: أسرها- حتى كان يومٌ، فسألهم سؤالاً في حضور ابن عباس.

قال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣]، ما تقول يا فلان؟ قال: هذا أمرٌ من الله عز وجل أنه إذا جاء نصر الله والفتح، فأمره أن يستغفر.

-فسر الماء بعد الجهد بالماء- وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: أقول فيها ما قال أخي، وأنت يا فلان! قال ابن عباس: فعلمت أنه يريد أن يريهم لماذا يدخلني، فقال: وأنت ما تقول يا ابن عباس؟ أتقول بقولهم؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين.

قال: فما تقول؟ قلت: هذا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعلام بقرب أجله فأنه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١ - ٢] فما بقاؤك إذاً؟ فقد تمت الرسالة وكمل الدين وتمت النعمة، فهذا إشعارٌ بقرب أجله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: والله يا ابن أخي ما أعلم منها غير ما تقول.

فقد بلغت منزلة ابن عباس أن عمر يدخله مع أشياخ بدر، وكان يضرب بأشياخ بدر المثل في رجاحة العقل وفي دقة النظر، حتى قال أبو حصين -وهو أحد التابعين- منكراً على الذين يتسرعون في الفتوى: إنكم لتفتون في المسألة؛ لو عرضت على عمر لعرضها على أشياخ بدر؛ أي: لا يجرؤ عمر -مع جلالته ورجاحة عقله- أن يفتي فيها حتى يشرك معه أشياخ بدر، وأنتم تتسرعون في الفتيا! الشاهد: أن عمر تعجب من ابن عباس لعدم معرفته بالمرأتين، مع أنه كان مهتماً بعلم التفسير، استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).

وهناك احتمال آخر وهو أن ابن عباس كان يعلم القصة مجملة، فأراد أن يعلمها مفصلة من عمر.

وهناك احتمال ثالث: وهو أن ابن عباس سمع القصة بنزول، فأحب أن يسمعها بعلو، أي: ربما يكون قد سمعها من رجل عن رجل، فأراد أن يعلو بهذه القصة، فطلب ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فقال عمر: (واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه.