للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرر المتعالمين على العلم]

فظن الرجل أنه بمجرد قراءة كتاب في المصطلح أو كتاب في أصول الفقه يصير عالماً، وبدأ يستخدم كلمة الأصول يهدد بها ويرهب المخالف، فكلما قرأت عدة أسطر يقول لك: (كما هو مقرر في الأصول)، وهذا حتى يرهبك ولا تعترض عليه، ومثال ذلك: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، يقول لك: العلماء يقولون هذا، السند في البخاري مالك عن نافع عن ابن عمر يقول لك: أصلاً علماء الحديث قالوا: إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن.

وهذا كلام حق، فالسند صحيح مالك عن نافع عن ابن عمر، لكن المتن ما له قيمة.

بدأ يدخل ويهدم في السنة من خلال هذا القول، أخذ كلام الكبار وتكلم به بغير دراية ولا روي، فاضطره ذلك إلى مساورة جبال الحفظ والأئمة الثقات الفحول، وظن أنه رجل مثل هؤلاء الكبار فساورهم، ونقول: لا.

ليس كل ذكر رجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:٢٣] وليس من المؤمنين ذكور، هناك ذكران الإناث أفضل منهم، لكن لا تكون المرأة أفضل أبداً من الرجل، لكن ممكن تكون أفضل من الذكر.

وهذا ذكرني بقصة ظريفة: أن رجلاً ينتحل لبس رجل آخر ويظن أنه صار مثله، أو يتكلم باصطلاحه ويظن أنه صار مثله، هذه القصة ذكرها أهل الأدب منهم صاحب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك في الجاهلية، وهو من أشهر ثلاثة منهم، وشعره أكثر الشعر دوراناً في الكتب لهذه الطبقة، طبقة الشعراء الصعاليك، واسمه: ثابت بن جابر ولقبه: تأبط شراً , معروف في الكتب بـ تأبط شراً، قال تأبط شراً ثم يذكرون أبياته اسمه غير معروف.

ولماذا قيل تأبط شراً؟ حكايات، منها أنه وجد الغول -حكاية- على هيئة خروف، فوضع الغول تحت إبطه، وذهب إلى أهله فقالوا: ما لك يا ثابت؟ ما هذا؟ هذا الغول، لقد تأبطت شراً، فقالوا: تأبط شراً ومضى هذا اللقب والتصق به.

فهذا تأبط شراً كان دميماً ونحيفاً، فقابله رجل ثقفي فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل أقول له: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد، قال: بهذا فقط؟ قال: ليس أكثر من هذا.

ففكر الثقفي قليلاً ثم قال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بكم تشتريه؟ قال: بهذه الحلة الجيدة -كان لابساً قميصاً جديداً- وبكنيتي، أعطيك كنيتي على البيعة كذا، وأعطيك هذه الحلة الجيدة، قال: موافق، اخلع، أخذ منه الحلة وقال له: أنت فلان، قال له: وأنت إذاً تأبط شراً، والرجل الثقفي كان يكنى أبا وهب، قال له: أنت تأبط شراً وأنا أبو وهب! فـ تأبط شراً أرسل إلى زوجة هذا الثقفي الأحمق ثلاثة أبيات من الشعر، قال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وثورتي وأين له في كل فادحة قلبي نعم.

هو أخذ الاسم، لكن هل أخذ قلبي وجرأة جناني، وثباتي على الأحداث؟ هل أخذ جلدي؟ ما أخذها، أهو أبو وهب هذا الجبان الذي لبس جلد السبع، إذا قابل رجلاً وأراد أن يخوفه، يقول له: أنا تأبط شراً وقلبه ضعيف؟! صحيح إنه لابس جلد سبع، لكن قلبه ضعيف، فـ تأبط شراً أعطاه الاسم فقط، لكن بقي قلبه القوي.

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهذا الرجل بمجرد أنه تصور أن صحة السند تستلزم صحة المتن ظن أنه صار كـ أبي حاتم الرازي، أو كـ أبي زرعة الرازي، أو صار كالإمام البخاري، أو الإمام مسلم، لا.

فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد لو كب على نفسه دواة حبر سنقول له: اذهب اشتغل بأي شيء إلا الكتابة، فالرجل بمجرد أنه قرأ كتاباً في المصطلح ظن أنه يستطيع أن يساور جبال الحفظ وأئمة الدين والورع، هيهات هيهات!! هذه العلوم تحتاج إلى ملكة، وحتى صحة السند تستلزم صحة المتن أيضاً.