للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مفسدات القلب وطرق الوقاية منها]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أخطر طريقين إلى القلب يفسدانه هما: السمع، والنظر، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أنجشة، وكان يحدو الإبل، وكان يركب بعض هذه الإبل بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أنجشة حسن الصوت جداً، ومعروف أن الإبل إذا حدوت خلفها جدت في السير، فقال عليه الصلاة والسلام: (رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير)، القوارير في هذا الحديث هن النساء، والقارورة أرق الزجاج وأخفه، وأسرعه كسراً، (رفقاً بالقوارير).

وفي مستدرك الحاكم، بيان لمعنى هذا الأمر: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة هذا أحد المعنيين في الحديث، خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة، وهن زوجاته وأمهات المؤمنين، العفيفات المؤمنات، خاف عليهن، فكيف يترك الرجل امرأته وبناته يستمعن إلى الخنا في ألفاظ الغناء، وهو يأمن عليهن؟! والله لقد رأيت عشرات بل مئات المشاكل كانت سبباً في انهدام بيوت بأكملها، والمشكلة هي الاستماع إلى المحرمات.

رجلٌ له مركز مرموق، جاءني يوماً وقال: إن امرأتي تطلب الطلاق، وأنا متزوجها منذُ خمسة وعشرين سنة، وأولادي في الجامعة، وله منصب عالٍ.

يعني: أن طلبها الطلاق منه يهز منصبه؛ لأنه يعتمد على سمعته في هذا المنصب، وهي مصرة على الطلاق.

لماذا يا أخي؟ قال: بدون أي أسباب.

واستمرت المشاكل بينهم فترة ستة أشهر، والمرأة كل يوم تهينه وتسبه حتى ترغمه على الطلاق، وهو صابر محتمل لأجل الأولاد ولأجل السمعة، ولم يجد بداً في النهاية من تطليقها، وبعد انقضاء العدة بيوم واحد تزوجت المرأة، فجاء الرجل وقد تغير وجهه.

فقال: تصور أن المرأة تزوجت، وهل تدري بمن؟ قال: بأعز أصدقائي، تعرف أن صديقي هذا كنت وأنا غائب آذن له في دخول البيت؛ فخانني، كنت أوصي امرأتي وأقول لها: لو جاء فلان: أدخليه في (الصالون) حتى آتي، فكان يخلو بها الساعة والثنتين والثلاث والأربع والله أعلم ماذا يجري؟! وكما يقولون: يذهب الشوق ويبقى الحب والاحترام.

يعني: أن البعض أول حياته الزوجية يكون مقبلاً على امرأته، يسمعها كلاماً جميلاً، وبعد ذلك يبدأ الكلام الجميل يذهب، والرجل ليس كلما دخل على امرأته قال لها: الدنيا من غيرك لا تساوي شيئاً، كأنه لا يعرف إلا هذا الكلام، لقد كان يقول هذا الكلام في أول شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين وانتهى، ويبقى الاحترام والمودة والمعاملة بالمعروف.

ليعلم أن المرأة محتاجة لهذا الكلام، فبسبب خلو الحياة الزوجية من الثناء المتبادل بينهما تجد الرجل يقول: والله أنا تعبت مع زوجتي، وأبحث عن الراحة والسعادة، وهي تقول: والله وأنا تعبت مع زوجي، ولم يعد يقول لي الكلام الجميل الذي كان يقوله لي وبدأ الرجل بعد خمس وعشرين سنة مع زوجته الأولى يبحث عن أخرى.

يعني: أن المرأة الأولى صار سنها ثلاثة وخمسين سنة، ما بقي من الكرم إلا الحطب.

الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قارورة، يعني: أن المرأة يستطيع أي رجل يحسن الكلام أن يستميلها، ولو كان زوجها من أفضل الأزواج، فهي معرضةً لذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير)، يخشى على قلوب زوجاته العفيفات أمهات المؤمنين، أن تتأثر بهذا الحداء الجميل الذي ليس فيه خناً ولا فجور ولا فيه شرك، لا يحلف بعينيها ولا يحلف بحياتها، وإنما هو كلام جميل موزون، ومع ذلك خشي عليهن، وخشي على قلوبهن بأن تنصدع بهذا الصوت الجميل، فهذا خطير جداً، أغلق هذا الطريق عن القلب تستريح كثيراً.

ثم النظر وهو أخطر الطرق كلها، فكم أردى من قتيل؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الدارمي في سننه، قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأتِ أهله، فإن معها مثل الذي معها)، خَلْقٌ واحد، إنما هو الحلال والحرام، والعلماء لهم قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)، النظر ليس ممنوعاً لذاته، إنما هو ممنوع لما يجلبه من الفاحشة بعد ذلك، فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم حتى لا يقعوا في الزنا.

إذاً: منع النظر إلى النساء سداً لذريعة الزنا.

أما لو وجد في النظر مصلحة راجحة كالنظر إلى المخطوبة، كرجل أراد أن يخطب امرأة أجنبية، فالأصل أنه لا يجوز له النظر إلى المرأة الأجنبية، لكنه يريد أن يحطب ويختار شريكةً لحياته، فيقال له: النظر الذي منعناه سداً لذريعة الزنا أبحناه لك في هذا الموضع؛ تحقيقاً للمصلحة الراجحة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمغيرة بن شعبة لما قال له: (إني خطبت امرأة من الأنصار، قال: هل نظرت إليها؟ قال: لا.

قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)، يؤدم: أي: يدوم الود.

وفي الرواية الأخرى قال: (فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً)، شيئاً: يعني صغراً، كانت عيون نساء الأنصار ضيقة، فلعلها لا تعجب المغيرة، فلماذا يتزوجها بدون نظر وبعد ذلك لا تعجبه فيطلقها، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن ننظر إلى المرأة الأجنبية للمصلحة الراجحة، أما فيما عدا ذلك فسد علينا الباب وحذرنا منه.

قال صلى الله عليه وسلم: (النظرة الأولى لك) أي: النظرة الأولى ليست ربع ساعة، يبقى ينظر ويقول: أنا في النظرة الأولى، لا.

النظرة الأولى ورد تفسيرها في الحديث الآخر، التي هي نظرة الفجأة، رجل يمشي رفع رأسه فوجد امرأة؛ فإنه يغض طرفه، هذه هي النظرة الأولى التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (فإن النظرة الأولى لك والثانية عليك)، فإذا رفع الرجل طرفه مرةً أخرى إلى المرأة كتبت عليه، وكل هذا لسلامة القلب؛ لأن هذا كله يفسد القلب، ويجعل كل جزء منه في كل وادٍ.

فالله اللهَ في قلوبكم؛ فإن العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، وصدق ابن القيم رحمه الله، لما قال: (يأتي الرجل البدين السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ويأت الرجل النحيف تكون ساقاه أثقل في الميزان من أحد؛ لأن الله يزن العباد بقلوبهم).

وأقرب مثال إلينا: ابن مسعود رضي الله عنه: كان من نحافته لو هبت ريح قوية تكفأه على ظهره، ولما صعد على شجرةٍ ذات يومٍ فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضحككم منه؟ قالوا: يا رسول الله! يضحكنا دقة ساقية، -رجلاه نحيفتان جداً- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، إنما هذا لسلامة قلب ابن مسعود.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا قلوبنا.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.