للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ابن عباس يقف مع قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) الآية

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (فلم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]، ونقل عنه أيضاً في كتاب التفسير قال: ظللت سنة أريد أن أسأل أمير المؤمنين عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]، حتى حج وحججت معه.

و (عدل) أي: ترك الطريق ليقضي حاجته، وعدلت، فقضى حاجته ثم جاء.

ففي هذا دليل على استحباب أن يلتمس التلميذ خلوات العالم ليسأله.

وهذا أدب ينبغي أن يتحلى به طالب العلم، وليس كلما ظهر له سؤال جاء وسأله، فهذا ليس من الأدب، إنما ينبغي عليه أن ينظر إلى خلواته، فإذا رآه وحده، أو رآه منبسطاً، أقبل عليه وسأله، وهذا الذي فعله ابن عباس، لبث سنة كاملة يريد أن يتحين فرصة يختلي بـ عمر ليسأله هذا

السؤال

لأن الهجوم المستمر على الشيخ يضجِّره من التلميذ، فهذا الذي يظهر به التلميذ كثيراً، لماذا؟ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها.

فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يلتمس خلوات العالم، فيسأله، ولا مانع حتى يرقق قلبه عليه أن يخدمه بشيء يسير خدمة بين يدي السؤال، مثلما فعل ابن عباس حديث حمل الإبريق لـ عمر ومشى خلفه، وانتظر حتى قضى حاجته، ثم سأله السؤال، قال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أسألك منذ سنة، فأمتنع تهيباً منك أن أسألك، قال: يا ابن أخي، إذا علمت عندي علماً فسلني، فمهابة العالم لا تصدك عن أن تسال سؤالك فإنه لا يتعلم اثنان، كما قال مجاهد فيما رواه أبو نعيم في كتاب الحلية عنه بسند ضعيف، وعلقه البخاري في صحيحه قال: (لا يتعلم اثنان)، يظلون جهلاء طوال عمرهم (مستح ومستكبر) المستحيي يمنعه الحياء والهيبة وما إلى ذلك أن يسأل السؤال.

ابن عباس سأله قال: لا، (إذا علمت أن عندي علماً فسلني) فقال ابن عباس من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤]، فقال: (واعجباً لك يا بن عباس) (إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه) بدأ يحكي القصة، وسر عجب عمر من ابن عباس قد يكون لما عُهد من ابن عباس من معرفة التفسير والبحث عن ضوابطه، وهذا من التفسير فكيف خفي عليه، أو لعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعجب من فطنة ابن عباس وذكائه الوقاد أن يسأل هذا السؤال وتخفى عليه هذه الواقعة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له رأي حسن في ابن عباس وكان يحبه.

فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع شيوخ بدر): وهم الثلة المضيئة في جبين المسلمين، فهم كل من شهد غزوة بدر، ولذلك ينسب إليها من شهدها لشرفها، ولا ينسب إلى أي غزوة أخرى، فيقال مثلاً: فلان البدري، ولا يقال: فلان الأُحدي ولا الخندقي ولا أي نسبة لغزوة أخرى، إنما ينسب إليها فقط، فينسب شاهدها إليها من باب الفضل.

فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أراد أن يستشير أو يعقد مجلساً، كان يحضر شيوخ بدر، ثم يستدعي ابن عباس فيدخله معهم، فغضب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقال لـ عمر: (تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله)، فأسرها عمر في نفسه، فلما جمعهم بادر عمر فطرح سؤالاً، قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣]، قال أحدهم: إنه أمر من الله عز وجل أنه إذا دخل الناس في دين الله أفواجاً بأن يسبحوه ويستغفروه، وقال آخر: لا أعلم إلا ما قاله، ووافق الجميع على ذلك، فقال: وما تقول فيها يا ابن عباس؟ قال: أرى أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إليه.

فقال عمر: والله يا ابن أخي ما أعلم منها إلا ما تقول.

قال ابن عباس: (وكنت أرى أنه أراد أن يريهم ما عندي)، وفي هذا دلالة على استحباب اصطحاب الصغار إلى مجالس الكبار؛ ليتعلموا، فالولد الصغير عندما يصاحب الكبير يستفيد من خبرته وتتوسع مداركه، ولذلك كانت سنة الآباء قبل ذلك أنهم إذا حضروا مجالس العلم أن يصطحبوا الصغار.

كان سفيان بن عيينة -رحمه الله- يلقي درساً لأصحابه، فدخل صبي صغير ومعه ورق وقلم ومحبرة، فبمجرد أن دخل الصغير وكلهم طلبة كبار -تلاميذ سفيان بن عيينة - فمجرد أن ضحكوا فتلا سفيان: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:٩٤]، ثم التفت إلى أحمد بن نضر راوي الحكاية عن أبيه قال: يا نضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، أكنافي قصار، وسيفي بمقدار، ونعلي كآذان الفأر، أختلف إلى علماء الأمصار، كـ الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير.

وتبسم سفيان وضحك، وتبسم نضر وضحك، وتبسم أحمد راوي هذا عن نضر وضحك، وضللوا يضحكون حتى وصلوا إلى الحافظ راوي الحكاية، وكلهم يضحكون، وهذا من الأمانة في أداء الرواية، واسم هذا النوع من الرواية المسلسل بالضحك، وهناك أحاديث اسمها المسلسلات، وهي: أي أداء الحديث على وصف معين وهيئة معينة، والتشبيك قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني علان وشبك يده في يدي، والكل شبكوا في أيدي بعض، أو المسلسل بالأولية، وهو مشهور وهو حديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، يقول: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني علان وهو أول حديث سمعته منه وهكذا.

كان الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله يأخذه أباه إلى مجالس الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهو ابن ثلاث سنين، وكان السيوطي يفتخر جداً بأن عمر ابنه كان ثلاث سنين، وجالس في مجلس الحافظ ابن حجر، فأدخل أولادك الصغار في مجالس الكبار، سيأخذون من عقولهم ومن تجربتهم، ابن عباس اكتسب خبرة من مجالسة أشياخ بدر، فكأن سيدنا عمر رضي الله عنه تعجب من خفاء تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:٤] الآية، مع شهرة على ابن عباس وعلمه بالتفسير.

ثم استقبل عمر الحديث يسرده، فبدأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجملة يريد أن يقول فيها: إن هذا الأمر هو سبب الإشكال كله، فقال: (كنا معشر قريش قومٌ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) فلم يكن للمرأة قيمة في المجتمع القرشي، إنما هي للولادة والخدمة فقط، فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والمجتمع المدني مجتمع حضاري، كالفرق الآن ما بين القاهرة الكبرى وما بين أي ريف من الأرياف، فأي رجل من الأرياف يدخل متجراً لكي يشتري، يلقى الرجل من المدينة يشاور المرأة في شراء شيء معين، تقول له: لا تعجبني هذه، فيقول لها: أتعجبك هذه؟ فتقول له مثلاً: لنذهب إلى متجر آخر، فيرد عليها: حاضر حاضر أما هذا فاعتاد طوال عمره أنه لا رأي للمرأة، فهو صاحب الرأي الأول والأخير في الموضوع، إنما المدينة مختلفة، المرأة لها كلمة، والرجل يشاور، فلما خرجت النساء من مجتمع مكة، (أم القرى)، وذهبوا إلى المدينة رأين شيئاً جديداً، رأين الشيء الذي ذكرته الآن كمثال.