للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدب الخلاف في المسائل الفرعية]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أريد أن أبيّن المسألة الأولى بخصوص العصبية في المسائل الفرعية؛ لأن كثيراً من المسلمين يحتاجون إلى بث لهذا الفهم، ونراهم يشوهون على بعضهم أعظم تشويه، فإذا ما اختلف هذا مع ذاك في مسألة فرعية، تجد الكل يتعصب لرأيه كما لو كان هو على الحق ومخالفه على الباطل.

لذلك نريد أن نذكر أدب الخلاف على سبيل الاختصار، وإلا فالموضوع طويل ومهم جداً، ولعل الله عز وجل ييسر ذلك بعد.

وسوف نعرض لأدب الخلاف في الإسلام وكيف يعذر بعضنا بعضاً ومتى، وليس معنى هذا أن تعذر أخاك دائماً على طول الخط، كأن يأتي ببدعة أو يخالف الدين مخالفة صريحة وتقيم عليه الحجة ولا يدفع هذه الحجة بعلم من عنده، ومع ذلك يصر على ما هو عليه، فهذا مبتدع متلاعب، يجب أن يردع ويهجر بوسائل الهجر المعروفة المشروعة.

أقدم بين يدي هذا الحديث الذي أصله في صحيحي البخاري ومسلم، والشاهد الذي أريده خرجه أبو داود، فقد قيل لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو في الحج: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين) في الحج يصلون جمعاً وقصراً، فالصلاة الرباعية تكون ثنائية، ويقدمون العصر إلى وقت الظهر جمع تقديم، وكلامنا الآن ليس عن الجمع إنما هو على القصر، فقالوا لـ ابن مسعود: (صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، وصليت مع أبي بكر ركعتين، وصليت مع عمر ركعتين، وصليت مع عثمان صدراً من خلافته ركعتين، فما حملك على أن تصلي أربعاً؟) والقصة بدأت بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته كان إذا حج بالمسلمين قصر الصلاة مثلما هو معروف، لكن في أخريات خلافته لم يقصر بل أتم، فصلى الصلاة الرباعية رباعية، والمسلمون يتابعونه على ذلك، فقيل لـ عثمان: لم فعلت؟ قال: (أنا أتيت بأهلي ومالي) فصار شأنه كشأن المقيم الذي معه أهله، فهو ليس بمسافر، فتأول عثمان أنه مقيم، فصلى أربعاً وصلى المسلمون معه أربعاً، فلما قيل لـ عبد الله بن مسعود أحد الذين صلوا ركعتين بداية ثم تابعوا عثمان على الصلاة أربعاً: لم صليت أربعاً مع عثمان ولم تصلِّ ركعتين؟ فأجاب إجابة الإمام الفقيه العالم قال: (الخلاف شر) وهذه الجملة هي التي لم يخرجها الشيخان وإنما خرجها أبو داود.

فما الذي تتصورونه لو جاء عبد الله بن مسعود وأخذ عصابة من المسلمين ونوى العصيان وقال: لا.

هذه عبادة ونحن غير مقتنعين بهذا كما اقتنعت به وسنصلي ركعتين، ثم افترق المسلمون أحزاباً في منسك الحج الأكبر، كيف يتأتى لهم نصر أو وحدة؟ فنظر عبد الله بن مسعود نظرة الثاقب، فقال: إنه لو أتم خلف عثمان -وهو متأول- أن هذا لن يصيب الأمة بضرر مثلما سيحصل لو أنه أخذ لنفسه وضعاً خاصاً وصلى ركعتين ومن ثم يتحزب ويشق عصا المسلمين.

يجب أن ننظر إلى خلافاتنا في المسائل الفرعية هذا النظر، ولا يجوز التكذيب أيها الناس! ما معنى أن يتكلم رجل فيقول: الطائفة الفلانية كذا، والطائفة العلانية كذا لماذا تذكرون الأسماء أيها الناس! مع أنها ليست فيها مصلحة؟ لماذا لا تسلكون مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو التعريض: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) بدون أن تصرح.

نعم تلجأ إلى التصريح إن كان فيه مصلحة راجحة، وإلا فدونك التعريض فإنه أدعى ألا يتفرق المسلمون أكثر من الفرقة الموجودة الآن، فإذا نظرنا إلى جيل الصحابة -هذا الجيل الكريم- كيف كانوا يختلفون في أشد مراحل الاختلاف، وانظر إلى المسلمين الآن إذا اختلف رجل مع آخر، لمزه بأنه من أهل البدع، ولا يصلي وراءه ولا يسلم عليه، وإن قابله في طريق أخذ طريقاً آخر، وقد رأينا مثل هذه النماذج.

مثلاً: أن يقنت دائماً في صلاة الفجر بالدعاء الذي يقال في صلاة الوتر: اللهم اهدنا فيمن هديت إلى آخره، ذلك بدعة، وبعض إخواننا من الشافعية يقولون بوجوب هذا الدعاء حتى إن بعضهم قال: لو نسيه فإنه يسجد للسهو؛ وعمدتهم في ذلك حديث ضعفه أهل المعرفة بالحديث وإليهم المرجع في هذا الأمر، وهو حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى قبض) لو صح هذا الحديث لكنا أول الداعين إليه، وليس هذا الحديث بصحيح بل هو منكر كما قال الأئمة وإن صححه بعض الشافعية؛ خلافاً للمتعارف عليه من علم أصول الحديث، فهذا الحديث ضعيف، وهو عمدة الشافعية الوحيد في أن دعاء الفجر دائماً يقرأ.

لا.

بل هو بدعة، وقد روى الترمذي في سننه بسند حسن صحيح أن أبا مالك الأشجعي قال لأبيه وكان من الصحابة: (يا أبتي! صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي، فهل كانوا يقنتون في صلاة الفجر؟ قال أبوه له: أي بني محدثة) -يعني بدعة- وهذه صلاة ولا أظن هذا الصحابي يغفل؛ لأن هذا الأمر لو حدث لكان اشتهر بالأسانيد الصحيحة، ولم يتفرد به أبو جعفر الرازي هذا الراوي السيء الحفظ.

فهذا الدعاء وإن كنا نصر على أنه بدعة، لكن لا نسوغ أن يكون أُسّاً للخلاف بين المسلمين، فيذهب الرجل فيقول: هو بدعة في الدين، ولابد من مناوأة البدعة، إذاً: ماذا ستفعل بأخيك؟ لن أسلم عليه، وأهجره، وأزجره، ولا أساعده، ولا أزوره إذا مرض، ولا أمشي في جنازته إذا مات!! إن هناك بعض من غلا في قضية الخلاف بين المسلمين، وهذا الغلو الفاحش الذي لا يقره أحد شم ريح الإسلام وشم ريح الأدلة الصحيحة.

فلو أن رجلاً لا يرى القنوت في الفجر دخل مسجداً، فإن كنت ترى أن القنوت باستمرار بدعة في صلاة الفجر، فإن جعلوك إماماً فلا تقنت، وأما إن كنت مأموماً فاقنت كما قنت الإمام.

انظر إلى هذه المسألة وانظر إلى ما هو أعظم ألف مرة منها وكيف عالجها الصحابة الأكابر، ففي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه جعل أبو بكر قيادة الجيوش ومحاربة المرتدين لـ خالد بن الوليد، وكان عمر وزير أبي بكر الصديق ونعم الوزير ونعمت البطانة، فذهب خالد بن الوليد إلى مالك بن نويرة التميمي، وكان مالك بن نويرة رجلاً تابع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ولكنه بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وظهر أمر مسيلمة الكذاب وارتدت أناس من العرب؛ انحاز مالك بن نويرة إلى سجاح المرأة المتنبئة الكاذبة التي كانت تزعم أن الوحي يأتيها، فانحاز إليها وتابع الذين يمنعون الزكاة.

فكان أبو بكر يقول لـ خالد: (إذا دخلت على مكان فسمعت فيه أذاناً، فكف يديك -مما يدل على أن الأذان علامة المسلمين- فإن لم تسمع أذاناً؛ فادعهم إلى الإسلام قبل أن تقاتلهم، فإن أبوا عليك فقاتلهم) منتهى الإنصاف! لا تهجم عليهم مباشرة، بل ادعهم، لعل فيهم مغرّرون، إذا سردت لهم من الأدلة ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن كلام الوحي الشريف رجعوا أدراجهم إلى دينهم.

فذهب خالد بن الوليد وقاتل، فمن جملة ما حدث أنه دعا مالك بن نويرة وقال له: (أما علمت -وكان مالك مسلماً- أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الزكاة كما فرض الصلاة) يعاتبه على أنه كيف انحاز إلى الذين منعوا الزكاة، فأجاب مالك خالداً: (كذا يقول صاحبكم، فقال له: ويلك أوليس بصاحبك؟ -يعني: هل هذا النبي صلى الله عليه وسلم صاحبي أنا وليس بصاحبك- أولا تعلم أنه قال كذا وكذا فقال مالك: كذا يقول صاحبكم، فثار الدم في دماغ خالد وقال: هذه بعد تلك، والله لأقتلنك) ثم أمر به فقتل.

إن الرجل يعبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كذا قال صاحبكم!! إذاً: هذا ليس في قلبه شيء من الحب ولا التوقير ولا الاحترام للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني: يقتل، فأمر به فقتل، لماذا؟ لأنه صار كافراً، فامرأته تصير من السبي، فاستبرأها خالد بحيضة؛ لأن الأمة ليست كالحرة، تستبرأ بحيضة حتى يأمن خلو رحمها من الحمل، ثم تزوجها خالد.

فصيّر الناس هذه القصة إلى أبي بكر الصديق على غير هذه الحقيقة، فقالوا: إن مالكاً رجل مسلم، وخالد تسرع فقتله ونزى على امرأته، وطبعاً لو كان الأمر كذلك؛ لكان الأمر مستبشعاً، إذ لو كان مالك بن نويرة مسلماً لما حل لك أن تأخذ امرأته، إنما يحل لك أن تأخذ امرأة في السبي، يعني: كانت تحت كافر، لا يحل لك أن تسبي المرأة المسلمة، لكن خالداً رأى أنه كفر، لأنه كرر المسألة مرتين، فقتله وسبى امرأته، واستبرأها بحيضة واحدة وتزوجها.

فلما وصل الأمر إلى أبي بكر الصديق وعمر قاعد عنده، انتفض عمر وقال: (عدو الله، قتل امرءاً مسلماً ونزى على امرأته؟!! القصاص، وأبو بكر يقول: لعل له عذراً! لعل له عذراً) حتى يسمع من خالد، فلما جاء وقص خالد القصة؛ عذره أبو بكر ولم يعذره عمر.

فهل تظن أن عمر قام وقال: لا.

أنا غير موافق على هذه المسألة، وانشق على أبي بكر مث