للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طفل رضيع أنطقه الله بما لا تعلم أمه]

رب إنسان تمنى تَلَفَه وهو لا يدري: إن طفلاً رضيعاً بصَّره الله عز وجل فعلَّمنا الحال والمآل، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لم يتلكم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج -وساق قصة جريج - ثم قال عليه الصلاة والسلام: وبينما امرأةٌ تُرْضِع ولدها إذ مر رجلٌ على دابة فارهة وله شارةٌ حسنة)، (دابة فارهة): قوية، نشبهها الآن بأفخم السيارات، وشارة حسنة: -أُبَّهة وعز، رجلٌ في موكب، وابنها يرضع، فعلى عادة الآباء والأمهات يتمنون لأولادهم أفضل مما هم فيه، كل والد يتمنى لابنه أفضل مما هو فيه، وكذلك الأم- فقالت الأم -التي تنظر بنظرة أهل الدنيا- (فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك الولد الرضيع ثدي أمه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثدي أمه يمصه، قال: أبو هريرة: ولَكَأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضع إصبعه في فمه يمصها) وهو يقلد فعل الولد، وهذا فن من فنون الدعوة؛ أن يكون عندك القدرة أن تستحضرَ المشهد وتُجَسدَه للمستمع، حتى ولو عن طريق السؤال والجواب، أو سرد حكاية كنوع من ضرب المثل، المهم أن تتفنن في إيصال المعلومة، وكان هذا دأباً للنبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الدعاة إلى الله عز وجل.

ومن بعض ما ذَكَرَ لنا تعلمنا أنه مَرَّ هو وأصحابه على جدي أسَكٍ ميت: فوقف وقال لأصحابه: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسَك مقطوع الأذنين- فقال: أترون هذه هينةً على أهلها؟ -يعني الجيفة- قالوا: أجل، قال: والله للدنيا أهون عند الله من هذا على أهله).

فلما سأل وقال: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) كان يعلمُ سلفاً أنه لا أحد يشتريه، إنما يريد أن يستحضر حقارة الدنيا؛ ويقيم الحجة عليهم بألسنتهم، فقد قالوا: (والله لو كان حياً ما اشتريناه) أي: نحن زاهدون فيه حياً وميتاً، فيكون الجواب بعد ذلك: فلِمَ تقتلُ أخاك على الدنيا إذا كانت بهذه الحقارة؟ نور الاستحضار للمشهد! ولذلك ضرب الله الأمثال في القرآن لنا: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١].

اربط ما بين المثل وما بين الواقع.

فالنبي عليه الصلاة والسلام أقبل على إصبعه يمصها، مع أن الصحابة يعلمون كيف يمص الصبي ثدي أمه؛ لكنها مبالغة واستحضار للمشهد، كما قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، فجعل يشير إلى عينه وأذنه، تأكيداً للمعنى، وليس تفهيماً بطبيعة الحال.

قال: (ثم مروا بفتاةٍ يضربونها ويقولون لها: زنيتِ، سرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت: الأم: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك ثدي أمه، وقال: اللهم اجعلني مثلها.

قالت له: حلقاء!) دعت عليه، (حلقاء) أي: أُصِبْتَ بوجعٍ في حلقك، يعني: لماذا تخالفني؟ وما هذا الذي تقول؟ (فقال لها: فأما الرجل الذي يركب دابةً فارهةً، وله شارة حسنة، فإنه جبار من الجبابرة؛ وأما التي يقولون لها: زنيتِ؛ ولم تزنِ، سرقتِ؛ ولم تسرق، فإنها مظلومة).

مَن الذي علم هذا الولد الرضيع هذا السر الذي خفي على أمه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠]، أن تبصرَ بالحال والمآل وتستقيمَ، هذا لا يبصرك به إلا الله.