للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ملازمة العلماء ومخالطة النجباء]

ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ (تلقين الأستاذ): هو أخذ العلم مباشرة عن الشيوخ، وأنا أوصي هنا بقراءة فصل نافع جداً في كتاب الموافقات للشاطبي في الجزء الرابع، لما تكلم عن التلقي تكلم كلاماً نافعاً جداً في هذا الباب.

وتلقين الأستاذ مهم جداً، وكما قال العلماء: يستفاد من ملازمة الأستاذ ثلاث فوائد، أعظم هذه الفوائد: الأدب، أن يتأدب المرء، وابحث عن أي رجل سيء الأدب في باب العلم فلن ترى له شيوخاً؛ لأنه أخذ العلم من الكتب، وظن أنه إذا حصَّل علم الكتاب صار كصاحب الكتاب، مثلاً لو افترضنا أنه حفظ كتاب الرسالة للشافعي عن ظهر قلب، فهو يتصور أنه صار كـ الشافعي في هذا الباب وهيهات! ليس من قلد كمن ابتكر، من السهل عليك أن تأخذ هذا عن الشافعي وتحفظه، لكن هل تستطيع أن تصوغه كما صاغه الشافعي من بنات أفكاره؟ أبداً، لذلك رأينا العلماء يحضون على ترك الأخذ من الذين لا شيوخ لهم، فكانوا يقولون: (لا تأخذوا العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي) لا تأخذوا العلم من صحفي -أي: رجل يأخذ من الصحف- ولا تأخذوا القرآن من مصحفي -أي: يقرأ من المصحف مباشرة- لماذا؟ لأن أقل شيء يقع فيه هذا الإنسان هو التصحيف.

وقديماً كان الإملاء لا يكون فيه إعجاماً، فالإعجام هذا متأخر قليلاً؛ لأن أول من نقط المصاحف هو يحيى بن يعمر بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت الحروف قبل ذلك مكتوبة ليس عليها نقط، فكيف تُقرأ؟ لأن الكلمة في هذه الحالة تحتمل أكثر من وجه، فصار وضع النقط يحدد معنى الكلمة، ولذلك كان المتقدمون يحرصون جداً على الضبط، وعلماء الحديث لهم كتب في ذكر تصحيفات المحدثين والفقهاء والأدباء وأصحاب القراءات، وضبطوها وحصروها، ووضعوا قيوداً وقوانين يضبطون بها العلم، ولولا ذلك لضاع العلم.

مرة كان هناك حطاب -وهو: الذي يجمع الحطب- دخل المسجد فوجد شخصاً يتكلم ويقول: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب) قال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟ وهي على اللفظ الصحيح: (الذين يشققون الخطب) يشققون: أي يتكلمون بالألفاظ التي لها وقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) ألفاظه رنانة، فالحديث وقع على أصحاب الخطب، فهذا قال: (الحطب)، فالمشكلة أن الرجل الحطاب كان موجوداً، فقال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟! وأرسل أحد الأمراء إلى خليفة المسلمين يقول له: إن المخنثين أفسدوا البلاد عندنا.

فأرسل إليه بأن يعدهم حتى يوضعوا في مكان لوحدهم فقال له: (احص من عندك من المخنثين).

فالقلم قطر نقطة فوق الحرف، فصارت (اخص من عندك من المخنثين) فدعاهم فخصاهم، انظر! خصى كل المخنثين بسبب نقطة واحدة وضعت على الحاء.

فالتصحيف حين تقرأ ما جاء في أخباره -خاصة في كتاب التصحيف للعسكري، والذي يقع في ثلاثة مجلدات- تعلم أن أخذ العلم من الكتب جناية كبيرة جداً على العلم، ولذلك تجد أن كثيراً منا الآن يغلط في ضبط أسماء الرواة؛ لأن أسماء الرواة لا يدخل فيها القياس، لكن تؤخذ بالسماع، فمثلاً عبد الله بن لهيعة، أو لَهِيْعة؟ لا يوجد قانون يحدد (لُهَيْعة) أو (لَهِيْعة)، هذا لا يدخل فيه القياس، إنما يؤخذ بالسماع، فلذلك نحن نتلقى ضبط هذه الأسماء سماعاً؛ لأنها لا تدخل في القياس كما قلت، فكيف يقرؤها الإنسان، لاسيما إذا كان الكتاب الآن لا يشكل، وقد يكون الذي حقق الكتاب ليس لديه علم بكيفية الضبط لهذه الأسماء؟! فحين تأخذ العلم من الكتب فإن أقل جناية تقع فيها هي التصحيف، ومن أعظم الجنايات التي يقع فيها الإنسان: أنه يفتقد الأدب، لاسيما -كما قلت- إذا بدأ حياته بكتاب المحلى لـ ابن حزم، وكتاب المحلى لـ ابن حزم مع قوة هذا الكتاب من جهة الفقه، وأن الرجل قرر مسائل فقهية لم يسبق إليها، وأقام عليها الدليل، وكان قوله فيها راجحاً، إلا أنه وهو يقرر مثل هذا اللون من الفقه لم يستوقفه حرمة عالم، وكلامه عن أبي حنيفة في غاية الشدة، بينما كلامه عن أحمد بن حنبل والشافعي أقل شدة.

سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان، الحجاج كان سيفه طائشاً لا يميز، كذلك لسان ابن حزم، ولذلك قلت في مطلع الكلام: تكون جناية على طالب العلم أن يبدأ بقراءة المحلى، بل ينبغي أن يبدأ بقراءة الكتب المختصرة.

وتلقين الأستاذ له فوائد منها: أن يتعلم الطالب منه الأدب، وأن يفهم المسائل فهماً صحيحاً.