للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الافتقار والتواضع]

وقوله: (وافتقار) الافتقار في هذه الأيام، التواضع، بأن تكون في زي الفقير، لا تتعالى على غيرك، ليس عندك من العلم ما تتعالى به، فحين تشعر دائماً أنك فقير إلى هذا العلم تزداد منه، كالمؤمن الذي يخشى الله تبارك وتعالى ويعبده بالخوف والرجاء؛ فإنه دائماً في ازدياد؛ لأنه كلما عمل عملاً يقول: ربما لا يتقبله الله؟ إذاً: الحل أن أحسن العمل فإذا لم تستحضر النية، لم تركع وتسجد كما ينبغي، كنت مرائياً، إذاً: أنا سأحسن العمل أكثر، فترجع النفس اللوامة تقول له: ما صنعتَ شيئاً، فماذا أفعل؟ حسِّن العمل أكثر، فلا يزال يحسن عمله أكثر فيلقى الله تبارك وتعالى في ازدياد دائم، فطالب العلم ينبغي أن يكون هكذا فقيراً مفتقراً متواضعاً، لا يعلو على أقرانه.

كان بعض العلماء يقول: ما رأيت أفضل من أحمد بن حنبل، كان والله يجمع ألواناً من العلم وما افتخر علينا قط، والذي يقول هذه المقالة هو أحد أقرانه الكبار.

يقول: أبو زرعة الرازي (ما افتخر أحمد علينا)، برغم ما كان عنده من العلم؛ بل كان الإمام أحمد متواضعاً دائماً، وكان معدوداً في أئمة الجرح والتعديل الكبار، ومع ذلك كان إذا ذُكر أحد الرواة يقول: ليس هنا أبو زكريا -أي: يحيى بن معين، فقال له رجل: وما تصنع به؟ قال له: ويلك! إنه يحسن هذا الشأن، مع أن الإمام أحمد قد تكلم في هذا الراوي الذي احتاج فيه لـ يحيى بن معين، لكنه يقول: ليس هنا فلان؛ لأنه يحسن هذا الأمر، لكن هذا هو التواضع والافتقار!.

قال سفيان الثوري رحمه الله: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه).

لأن منا من يستنكف أن يكتب عن تلميذه، يقول: أنا شيخه، فلا أكتب عنه، فهذا من حظ النفس وليس من النبل.

وهذا الإمام البخاري فقد روى عن الترمذي مع أن الترمذي تلميذ الإمام البخاري، وكان الترمذي يرى أن رواية البخاري عنه مدعاة فخر، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ورواه عني محمد بن إسماعيل البخاري، كلما يروي هذا الحديث يقول هذا التنبيه.

وابن خزيمة أيضاً من طبقة تلاميذ البخاري، ومع ذلك روى عنه البخاري.

ومسلم بن الحجاج -رحمه الله- أيضاً روى عنه الإمام البخاري، والإمام البخاري شيخ مسلم كما هو معروف.

فعندما تنبل فإنك لا ترى استنكافاً، أن تأخذ من تلميذك، فالافتقار نحتاج إليه، وكذلك التواضع! مهما أخذت من العلم، فاعلم أن الذي لم تحصله أكثر وأكثر، فهذا يحملك على ألا تجعل لنفسك مقاماً أعلى من مقامها، لاسيما إذا كنت في بدء الطلب.