للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرورة حضور طالب العلم حلقات العلم وعدم الاكتفاء بالقراءة المنفردة لكتب العلم]

السؤال

كثير من الإخوة يريدون أن يطلبوا العلم، وفي سبيل ذلك فإنهم يعتزلون الناس ويتفرغون لقراءة الكتب، حتى إنهم يمتنعون عن نصح الجاهل وإرشاده إلى ما يجب عليه من أمور دينه بحجة أنهم لم يتعلموا بعد، ومن جانب آخر يسأل بعض الشباب عن كيفية البدء في طلب العلم، وكيف يبدأ في دروس الفقه والحديث والعقيدة، إلى غير ذلك، فالسائل يريد أن يضع قدمه على أول الطريق في طلب العلم أرشدنا جزاك الله خيراً؟

الجواب

قلت سابقاً: إن هذه الحلقات لابد منها، ولكن لا تجد أحداً قط حصّل قدراً كبيراً من العلم اعتمد فقط على مثل هذه الحلقات، بل لا بد من البحث الشخصي، ولابد من التعب، فإن التدريس في الحلقات يفتح لك الباب، فتتوفر لك الفرصة لتصحح ما تقرأ، أما أن يأتي الرجل ليسمع فقط لا غير، لا يقرأ ولا يجهد نفسه ولا يلخص هذا لا يمكن أن يحصل على علم كثير، فهذه الحلقات هي المفتاح لاسيما في هذا العصر.

سمعت شخصاً يقول: الشيخ بخمسة ريالات، فأقول له: ماذا تعني بقولك: الشيخ بخمسة ريالات؟ فيقول: أي شيخ ممكن يكون عندك في بيتك بخمسة ريالات -يعني الشريط- وترجعه كما تريد، وتأخذ آخر، وتسمع كما تريد، وقد لا تستطيع أن تستوضح مسألة من الشيخ في الجلسة لكن في الشريط ممكن تسمع الدرس أكثر من مرة، فالشريط هذا كأنه نصف شيخ.

طبعاً في مسألة الملازمة والأدب الشريط لا يعلِّم؛ لأن الشريط شأنه شأن الكتاب، فلزوم حلقات أهل العلم يستفيد الإنسان بها الأدب الذي هو زين العلم، فهناك بعض المشايخ شرحوا كتباً كبيرة، بإمكان الإنسان أن يأتي بالكتاب ويسمع الشريط، هذا إذا تعذر عليه أن يوافق شيخاً على عقيدته، أو يجد شيخاً متضلعاً بالكتاب والسنة، فهذه الحلقات لابد منها.

ولأن العزلة وهذا شيء أنا جربته وبلوته- غير محمودة، ومسألة الانكباب على الكتاب وعدم الذهاب حتى لإخوانك من طلاب العلم، فتكلمهم وتناظرهم، وتأخذ ما عندهم من الفوائد، فطالب العلم الذي يعمد إلى هذا السلوك يخسر كثيراً جداً.

بعض إخواننا يقول: كثيراً ما قرأت ونسيت، فكيف أحفظ؟ فلماذا نسي؟ لأنه وهو يقرأ ليس له هدف، فلو أن الكلام الذي سيقرؤه يريد أن ينفع به بعد ذلك لن ينساه، إنما إذا قرأ لمجرد القراءة قد يفهم، لكن إذا ترك القراءة ثلاثة أيام ينسى الذي قرأه، فمعظم الذين ينسون ما يقرءون ليس لهم هدف تعليمي، وما المانع يا أخي! أن تطمع في فضل الله عز وجل، وأن تدعو الله عز وجل أن يجعلك للمتقين إماماً؟! فما عرفنا أحداً من العلماء كان يظن أنه سيصل في نهاية حياته إلى مرتبة الإمامة، فلِمَ تحتقر نفسك؟ فالإمام أحمد أو الإمام يحيى بن معين أو الإمام البخاري لم يرد عن أحد منهم أنه كان يظن أنه سيصل إلى هذه المرتبة، ولذلك تجد في تراجم هؤلاء العلماء أن تاريخ ميلادهم قد يكون مجهولاً، لكن تاريخ وفاتهم معلوم عندنا بالساعة والثانية، ويرجع ذلك إلى أن الواحد منهم يوم ولد ولد كآلاف المواليد، لا أحد يعرف يومها هل سيكون نجيباً؟ هل سيكون إماماً؟ هل سيكون صالحاً؟ هل سيكون فاسقاً؟ لا أحد يعرف، لذلك لم يهتم أحد بتدوين تاريخ ميلاده، حتى صار إماماً فعرف تاريخ وفاته، فكل واحد لما وصل للإمامة في آخر حياته ما كان يظن قط أنه سيصل.

لذلك لا تحتقر نفسك، وسل الله تبارك وتعالى أن يجعلك للمتقين إماماً، أول ما تجعل هذا الهدف أمامك كل علم ستستفيد منه، ولن تقرأ شيئاً في باب من أبواب العلم إلا وتستفيد منه، فكن غواصاً في المعاني، فالغوص في المعاني يحتاج إلى تهيئة سابقة.

الإمام الشافعي رحمه الله قال: حديث ذي اليدين فيه سبعون باباً من العلم.

وحديث ذي اليدين هو الذي جاء فيه قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس.

ثم التفت إلى الناس، قالوا: صدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين وسجد للسهو) فهذان السطران كتب فيهما الحافظ صلاح الدين العلائي مجلداً ضخماً، اسمه "نظم الفرائد لما في حديث ذي اليدين من الفوائد" استخرج منه جملة من العلوم والفوائد، فكيف يحصل الإنسان هذا؟ يمكنه ذلك بالغوص في المعاني، وحضور دروس المشايخ، الاختلاط بإخوانه من طلاب العلم.

كان الزهري رحمه الله أول ما يسمع من سعيد بن المسيب أو من أبي سلمة بن عبد الرحمن أو غيره من المشايخ يأتي الدار في الليل فيوقظ جاريته، ويجلسها، ثم يقول: حدثني سعيد بن المسيب قال: حدثني أبو هريرة ويسوق الأحاديث، فتقول: يا سيدي! ما لي وما لـ سعيد؟! فيقول لها: آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة، وأخشى أن أنسى.

أيقظها من أجل أن يسمعها الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينسى إذا لم يجد من يذاكره، لذلك تجد المنغلق على نفسه أكثر الناس نسياناً لماذا؟ بسبب عدم وجود من يذاكرهم.