للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغفلة عن ذكر الموت]

فانظر إلى هذه السنوات المعدودة، وقارنها بما بعدها من سفر طويل، يبدأ بخروج الروح؛ وهذه القيامة الصغرى التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:١٩]، الموت حق لا يمتري فيه أحد، ولكن كما قال علي بن أبي طالب قال: (الموت يقينٌ لا شك فيه، وشكٌ لا يقين فيه، قالوا: كيف يا أبا الحسن؟ قال: يقينٌ لا شك فيه؛ فكل الناس تعرف أنها ستموت، ولكنهم يعملون عمل الذي لا يموت)، فواقعهم يقول: إن الموت لا يأتي، مع أنه آتٍ لا ريب فيه، فجملة عملهم يقول: إن الإنسان يشك في موته شكاً لا يقين فيه، مع أن الموت في حقيقة أمره يقينٌ لا شك فيه، فقال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] كل المشاكل التي يجنيها المرء بعد ذلك سببها عدم ذكر الموت؛ ولذلك بدأ تبارك وتعالى بذكر أهل النار: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:٢٣] أي: بما أنك جعلتني رقيباً عليه وعلى تصرفاته، فقد جئتك بكل ما يعمل، فهذا معنى عتيد.

فلما جيء بهذا العبد الذي كان يحيد عن الموت، ولا يظن يوماً أنه سيموت، قال: {((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد} [ق:٢٤] فأورد هنا ست صفات لمن يدخل النار ((كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [ق:٢٤ - ٢٦] وهذه الست الصفات للإنسان الذي يهرب من الموت، وهذا متمثل في الكافرين، الذين يستمتعون بزهرة الحياة الدنيا، فبدأت الأوصاف بالكفر وختمت بالشرك، فكان مبدؤها الكفر وكان خاتمتها الشرك فأطبق عليه.

وذكر أيضاً صفات أربع لأهل الجنة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:٣١ - ٣٣].

فعدم ذكر الموت هو سبب كل المشاكل، وقد ترتب على هذا الإهمال إهمال آخر: قال صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده)، فكم شخص منا كتب وصيته؟ إن كثيراً منا لم يكتب الوصية، ولم يخطر بباله أن يكتب هذه الوصية، ما هذا الأمان الذي نعيش؟! الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل المرء يؤمل استمرار الحياة، مع أنه كم من رجلٍ خرج من بيته ولم يعد إليه، وقد كان يؤمل العودة، حوادث كثيرة نقرؤها في الجرائد، فهذه امرأة أوصلت الإفطار للأولاد، فذهبت لتعبر الشارع وإذا بها تدهسها سيارة فتقتلها، والطعام ما زال ساخناً، والأولاد ينتظرون الأم لتأكل معهم.

فما هذا الأمان الذي يجعل المرء لا يكتب وصيته؟! ما فرط في الوصية إلا لأنه لا يذكر الموت (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلةً -فقط- إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده).

فأول ما يتوجب عليك -أيها المسلم- عند رجوعك إلى أهلك أن تكتب الوصية، فاكتبها وقل: هذه وصيتي، ومرهم بتقوى الله عز وجل، وأن لا يغتروا بالدنيا، وأن يعملوا الصالحات، وأن يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وإذا كان الموصي عليه ديون أو له مال في الخارج فليكتبها، فمن علامة ذكر الموت: ألا يفرط في الوصية.

قال تبارك وتعالى أيضاً: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٦ - ٢٩]، هذا أيضاً من آثار الحيد عن ذكر الموت.

{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٩] إذا مات المرء لا تلتف ساقه على الحقيقة، إنما هذا إشارة إلى تعسير السير إلى الله عز وجل، تخيل أن رجلاً يمشي في الشارع فالتفت ساقاه، ماذا سيحدث له؟ سيسقط على الأرض.

فمعنى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٩] أنه عاجز عن السير إلى الله كالذي التفت ساقاه فلا يستطيع أن يسير، ولذلك قال عز وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:٣١ - ٣٢]، وفي هذا بيان للسبب الذي جعله متعسر السير، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الجنازة حين تحمل على أعناق الرجال إذا كان المحمول فاجراً يقول ويصرخ بصوت يسمعه كل مخلوق ما عدا الإنس والجن: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) بعدما عاين وراءه، يقول: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هذا من آثار قلة ذكر الموت.

إذاًَ فالوصية الأولى في هذه السورة المباركة: هي كثرة ذكر الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتخيل أي لذة أنت فيها لو ذكرت الموت لتعكرت عليك، فلو تخيلت حين تكون وسط أولادك ووسط الناس الذين يهنئوك بالعيد، وفاجأك الموت من بين هؤلاء، وبقيت رهين عملك، ولا أحد يزورك، ولا أحد يدعو لك، ولا أحد يتصدق عنك، لو تدبرت هذا المعنى لعكر عليك هذه اللذة.

(أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فذكر الموت أكبر علاج لما عليه الناس الآن من البحث عن فضول الدنيا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.