للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لابد لطلب العلم من الهمة والمثابرة]

السؤال

ما رأيكم بمن يقول: لن أطلب العلم حتى ألتحق بالجامعة، وهناك سأتفرغ وأهتم وأجد وأجتهد؟

الجواب

الذي يظن أن الدراسات الجامعية تؤهله لأن يكون عالماً أو طالب علم فهو مخطئ، إن الكتب الجامعية لا يمكن أن تخرِّج نصف طالب علم، ولا ربع طالب علم، إذا رأيتم طالباً على مستوى عال في بعض هذه الجامعات، فاعلموا أن هذا من جهده في المقام الأول، وأنه خرج عن حيز الدراسة.

فالذي يؤجل طلب العلم إلى أن يدخل الجامعة ضيع أحلى سنوات العمر وأفضلها، وكما يقال: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.

وأنت لا تضمن أن تكون بصحتك عند دخولك الجامعة، ولا تضمن أن تكون خالياً من المشاكل والمشاغل إذا وصلت إلى الجامعة، ابدأ الآن في طلب العلم، حيث أن الله تبارك وتعالى أفاء عليك بالوقت، وأفاء عليك بالراحة، ووسائل المواصلات المريحة، وأفاء عليك بالمال، فتستطيع أن تشتري الكتب، وأفاء عليك بالمواصلات الحديثة كالهاتف والفاكس وهذه الأشياء، وبدلاً من الرحيل إلى الشيخ في أقصى بلاد الدنيا، تستطيع أن ترفع الهاتف وتكلِّم الشيخ، أسلافنا ما كانوا كذلك.

دعوني أحكي لكم قصة لـ شعبة بن الحجاج رحمه الله أراد أن يتأكد من حديثٍ واحد.

وهذه القصة مذكورة في مقدمة كتاب المجروحين لـ ابن حبان، ورواها الخطيب البغدادي أيضاً في كتاب الكفاية من طريق نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت لهم: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فما أن انتهيت من الحديث حتى خرج شعبة من الدار فلطمني فدخل، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فقعدتُ أبكي، فخرج شعبة فوجدني أبكي، فقال: هو بعد يبكي؟ فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدِّث به، ثم استقبل شعبة الحديث يسرده -سيحكي قصته مع هذا الحديث- قال: (إني سألت أبا إسحاق: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء)، ولعلكم تعلمون أن أبا إسحاق السبيعي كان يدلِّس، والمدلِّس يعمد إلى شيخه أو إلى شيخ شيخه فيحذفه، وينظم الرواية بالعنعنة، وكان شعبة شديد النكير على هؤلاء المدلسين، وكان يعلم أن أبا إسحاق السبيعي مدلس، وهو القائل كما صح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة، وذكر منهم أبا إسحاق السبيعي.

(فلمّا سمع أبو إسحاق السبيعي كلمة شعبة غضب، وأبى أن يجيب)، فإذاً لابد أنه دلِّس في السند؛ فطالما أنه أبى أن يجيب فيكون قد دلّس؛ لأنه لو كان سمع حقاً لبادر، وقال: سمعت.

فقال مسعر بن كدام -وهو إمامٌ ثقة كبير القدر-: يا شعبة عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -إذا أردت أن تتأكد فاذهب إلى مكة- وشعبة أين؟ شعبة في البصرة، أهي مسافة قصيرة؟!! شعبة في البصرة، وعبد الله بن عطاء في مكة، قال شعبة: (فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث)، قال: (فلما ذهبت إلى مكة دخلت على عبد الله بن عطاء، فإذا رجلٌ شاب فقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا، إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم، وسعد بن إبراهيم هذا مدني يسكن في المدينة، قال: فذهبت إلى مالك -الإمام المشهور- فسألته عن سعد بن إبراهيم فقال لي: ما حج العام -إذاً سيكلِّفه رحلة إلى المدينة- قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فقابلت سعد بن إبراهيم قلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال له: لا، من عندكم خرج -أي: من البصرة-، قلت: من حدثك؟ فقال: زياد بن مخراق، فقال شعبة: حديثٌ مرةً مكي، ومرةً مدني، ومرة بصري، دمِّر عليه لا أصل له.

قال: وانحدرت إلى زياد في البصرة وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: ما هو من بابتك، قلت له: فما من بُد، هذه حاجتي، قال له: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتيني، فذهب واغتسل وغسل ثيابه وجاء، قال: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال له: لا، سمعته من شهر بن حوشب، وشعبة كان سيئ الرأي في شهر بن حوشب، قال: شهر بن حوشب عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر، لاحظ كم رجلاً سقط من الإسناد؟ سقط سعد بن إبراهيم، وسقط زياد بن مخراق، وسقط شهر بن حوشب، وسقط أيضاً أبو ريحانة، أربعة سقطوا، مما يبيِّن لك خطورة التدليس، فقال شعبة رحمه الله: (حديثٌ صعد ثم نزل، دمِّر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي)، وطبعاً هذا الحديث صح، لكن من طريق آخر غير الطريق الذي وقع لـ شعبة.

فهذا مثال رحلة من شعبة بن الحجاج يطوف فيها على بلدان وتعلمون المسافات الشاسعة بين تلك البلدان وبعضها؛ لأجل أن يتأكد من حديثٍ واحد، قد يصيب بعض طلبة العلم المتخصصين الكسل أن يدير قرص الهاتف حتى يتّصِل بالشيخ الفلاني، يسأله مسألة في علم الحديث أو علم الفقه، انظر إلى الهمم!! كان ابن الجوزي يقول: (إنما البكاء على خساسة الهمم) المسألة ليست قلة إمكانات أبداً، أي كتاب مهما كان تستطيع أنك تشتريه، إن لم تستطع أن تشتريه تستطيع أن تصوِّره في الحال، تصور لو أننا في زمن ابن حجر، وأردت أن تنسخ فتح الباري، وكلفت ناسخاً ينسخه لك، تريد أشهراً لنسخه، أما الآن فأنت تستطيع أن تصوِّره في ليلة واحدة، لو وقفت وقفة رجل حازم، وعندنا من الكتب ما لم يكن عند كثير من هؤلاء، ومع ذلك لا نعلم منها شيئاً، هذا بسبب ماذا؟ بسبب التأخر في طلب العلم، تأخر زمان طلب العلم كلما قلت الهمم، والذي يؤجل طلب العلم إلى أن يدخل الجامعة الإسلامية أو غيرها من الجامعات، فليستبشر خيراً أنه لن يكون الذي يحلم، لن يكون ذلك.

لو أنفقت في طلب العلم عمرك كله من وقت أن نطقت إلى أن تموت، ولو عمِّرت عمر نوح عليه السلام لمُتَّ مليئاً بجهلك، تموت وأنت جاهل فهناك مسائل أنت ما عرفتها.

ابن جرير الطبري رحمه الله، دخل عليه بعض أصحابه يعوده في مرض الموت، فتذاكروا مسألة أظنها في الفرائض، فدعا ابن جرير الطبري بقرطاس ودواة وقلم، وأراد أن يكتبها، فقال له صاحبه: أفي هذا الحال؟ أي: رجل يعاني من مرض الموت، قال له: أَخرُج من الدنيا وأنا عالمٌ بها، خيرٌ من أن أخرج منها وأنا جاهل بها، مع أنه لن يكون عنده من الوقت ما يستطيع أن يفيد غيره بذلك، لكن هي محبة لطلب العلم، الذي يحب طلب العلم يُغلب على حبه، فلا يضيع شيئاً من وقته، وأخيار العلماء كانوا حريصين على الوقت وعلى طلب العلم أشد الحرص وأعظمه.

فأنا أنصح هذا السائل إن كان عنده حب للعلم، أن يبدأ من الآن، وكفاه ما ضاع من عمره، فلا ينتظر حتى يضيع سنوات أخرى هو أحوج ما يكون إليها، والله أعلم.

مداخلة: إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة من أعلى الجامعات الإسلامية، تخرج ما يربو على الألف أو الألفين سنوياً، ولكن كأنهم في خبر من يبحث عن الدنيا ويبحث عن المادة، ولا تسمع منهم إلا القليل القليل الذين فادوا وأفادوا واعتمدوا على الله تبارك وتعالى.