للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غلو الصوفية في مشايخهم ومنع الاعتراض عليهم]

الصوفية ينكرون الاعتراض على الشيخ، ومن هنا سهل عليهم تأليهه، لكن لو رُد عليه وقيل له: أنت أخطأت.

فقال: نعم أخطأت، فيعلم المستمع أنه ليس بمعصوم، وأن الله نشر الفضل في الناس، فالفضل لم يودع لإنسان واحد ولا لاثنين ولا لأربعة، بل جعل الله الفضل مشتركاً مقسوماً بين عباده، فهذا فاضل في كذا وناقص في كذا، وذاك فاضل في كذا وناقص في كذا وهكذا.

لكن لأنهم منعوا الاعتراض سهل عليهم تأليه الشيوخ، وكيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعترض عليه أصحابه، لا اعتراض جحود ولا إنكار للعمل، بل اعتراض استفهام وتعجب وليس اعتراض مكابرة حاشا لله! ما كان فيهم أحد أبداً يفعل ذلك ولا يجرؤ على فعل ذلك، لكن كان اعتراض تعجب، مثل اعتراض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يصلي النبي عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي ابن سلول، ويقف بينه وبين الجنازة، ويقول: كيف تصلي عليه؟ ألم يفعل كذا وكذا وجعل يذكره، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (تنح عني يا عمر) وعمر لا يتنحى: كيف تفعل كذا وكذا؟ ألم يقل كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ وقال يا عمر: (إني خيرت فاخترت)، حتى نزل القرآن موافقاً لكلام عمر.

وكذلك كان عمر يعترض على أن تخرج زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بغير حجاب أو يجالسهن الرجال بغير حجاب، فكان يكثر أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! احجب نساءك.

حتى نزل القرآن موافقاً لـ عمر.

وأيضاً اعتراض سعد بن عبادة سيد الخزرج لما جاء هلال بن أمية الواقفي وقد رأى رجلاً مع امرأته، فجاء يرميها بالزنا، ولم يكن نزل حد الملاعنة بين الرجل وامرأته، إنما نزل حد الرجم بالزنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة شهداء أو حد في ظهرك فقام سعد بن عبادة وقال: أدع لكاعاً يتفقدها ثم ألتمس له أربعة شهداء!! والله ما أعطيه إلا السيف غير مصفح) غير مصفح: أي: لأضربنه بحد السيف، لأن السيف له حد وصفح، الحد: هو الشفرة، والصفح: هو الجانبان، فهو يقول: (لا أضربه بصفح السيف هكذا، بل أضربه هكذا بحده) يريد: أنه سيقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ما يقول سيدكم!) مع أنه يعارض آية في كتاب الله عز وجل، ويعارض حكماً ثابتاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ما يقول سيدكم!).

وهذا فيه دلالة على أن التكفير باللفظ المحتمل لا يكون إلا بعد ثبوت القرينة؛ لأنه لو جاء رجل فاعترض على الحكم اعتراضاً، وقال: أنا لا أؤمن بهذا الحكم؛ كفر، مع أن سعد بن عبادة رد الحكم، هذا رد وهذا رد، لكن هذا ما رد كفراً ولا جحوداً، وإنما رد تعجباً، مثلما حدث في الصحيح أن الربيع بنت النضر ضربت امرأة من قبيلة أخرى فكسرت ثنيتها -الثنية: هي مقدم الأسنان- فذهب الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القصاص -والقصاص: أن يكسروا أسنانها- وكان أنس بن النضر -أخوها- يحبها غاية الحب، فقال: تكسر ثنية الربيع! لا والله أبداً، لا يكون.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس! حكم الله القصاص.

قال: لا والله، لا والذي بعثك بالحق، لا يكون.

والناس يأبون أن يأخذوا الدية، والنبي صلى الله عليه وسلم كلما يقول له: حكم الله القصاص.

يقول له: لا والذي بعثك بالحق لا يكون.

حتى قبل الناس الدية، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أي: أن أنس حلف بالله لا يكون، فأبر الله قسمه، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعترض؟ قد كفرت، قم واغتسل لا، لأن هناك قرائن، ولذلك لما ترى رجلاً قال كلمة كفر فلا تسارع إلى تكفيره، فقد يقول الرجل كلمة الكفر لا يكفر بها.

وشيخ الإسلام ابن تيمية ناظر رجلاً من المعتزلة حتى الصباح، فقيل له: أكفر؟ قال: لقد قال كلام الكفر.

قال شيخ الإسلام: (وقلت لهم مرة: أنا لو تابعتكم على ما تقولون لكفرت، ولكنني لا أكفركم؛ لأنكم جهال) لماذا لأنه لو تابعهم على ما يقولون لتابعهم بعد معرفة الحجة، قال: (لكنني لا أكفركم لأنكم جهال).

فـ سعد بن عبادة يعترض، ويقول: (والله ما أعطيه إلا السيف غير مصفح)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظروا ما يقول سيدكم فقالوا: يا رسول الله! اعذره؛ فوالله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة فجرؤ أحدنا أن يتزوجها بعده) أي: المرأة التي يطلقها سعد بن عبادة نقضي عليها بالإعدام، فلا تتزوج بعد سعد أبداً من شدة غيرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، إنني أغير من سعد والله أغير مني)، ولذلك فإن من غيرة الله عز وجل على أن تنتهك حرماته حرم الفواحش.

فأنت تنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وتنظر إلى مسلك أصحابه، كانوا يعترضون اعتراض تعجب، ولا أزال أقول: اعتراض تعجب، يستغرب من هذا الحكم، فقد يسأل ويستغرب من هذا الحكم ويرد المسألة والنبي عليه الصلاة والسلام يحلم عليه ويبين له حتى يستيقن ويُسلِّم.

فإذا نظرت إلى الناس وهم يسددون الشيخ ويقولون له: أخطأت، أو هذا غلط، وهو يرجع إلى مقالهم؛ علمت أن هذا الرجل ليس فاضلاً من كل جانب.