للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم]

روى الإمام الترمذي في سننه بسندٍ صحيح عن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ قلت: ابتغاء العلم.

قال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، فقال: قد حز في صدري شيء من المسح على الخفين بعد الغائط والبول، فكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هل سمعت منه فيه شيئاً؟ فقال: نعم، رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم.

فقلت له: هل سمعت منه في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، كنا معه في سفرٍ، فطفق أعرابي ينادي بصوت له جهوري: يا محمد! فأجابه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن من صوته هاءٌ -وفي رواية أخرى قال له: يا لبيك- فقلت للرجل: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن هذا؟ فقال الأعرابي: والله لا أغضض من صوتي.

فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب).

هذا الحديث فيه جمل من العلم.

أول هذه الجمل: على المسلم إذا حز في صدره شيء أن يطلبه بدليله، فإن زر بن حبيش لما حز في صدره شيء ليس من المسح، إنما في جزئية في المسح سأل.

الخف هو: حذاء من جلد لكن لا نعل له، كالجورب -الشراب- بحيث أنك تستطيع أن تمشي به.

فروى أكثر من أربعين صحابي عن النبي صلى عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين، ويُشترط في المسح على الخفين: أن تلبسهما على طهارة؛ تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تلبس الخف على طهارة.

لما قال صفوان لـ زر بن حبيش -وهو أحد الصحابة-: ما جاء بك يا زر؟ قال ابتغاء العلم.

فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).

هذا الكلام وإن كان من قول صفوان، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في غير ما حديث، وحتى لو لم نجد هذا الكلام معزواً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالقاعدة عند العلماء تقول: إذا قال الصحابي شيئاً من الغيب الذي لا يعرف فيحمل على أنه سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام.

فإذا قرأت -مثلاً- قولاً لصحابي: (إن في الجنة شجرة من ذهب) هل الصحابي دخل الجنة ورآها ثم أتى فوصفها؟ لا؛ لأن الجنة غيب، فهو إذاً من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما يسميه العلماء: (مرفوعٌ حكماً) أي: أنه ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

فقول صفوان: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، إنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر الإمام النووي في كتابه المعروف (بستان العارفين)، والسند كل رواته أئمة: أن بعض أهل الحديث رأى رجلاً ماجناً يلبس قبقاباً -الخشب المعروف- ولكنه وضع فيه بعض المسامير، فقالوا له: لم هذه المسامير؟ قال: حتى أخرق أجنحة الملائكة.

فيبس.

-أي: شُل- لأنه يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا جزاء من لا يوقر الحديث، ولا يوقر كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وقد حدثت حادثة شبيهة بهذه الحادثة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال له: (كل بيمينك.

قال: لا أستطيع.

قال: لا استطعت؛ فشلت يده، قال عليه الصلاة والسلام: ما منعه إلا الكبر) لذلك شلت يده؛ لأنه لا يتصور أن رجلاً يستطيع أن يستخدم يمينه فيأكل بشماله؛ لأن هذا داخل تحت النهي (لا يأكل الرجل بشماله)، لكن إذا كانت بيمينه علة، ولا يستطيع أن يستخدم يمينه في الطعام، هل يقال له: لا بد أن تستخدم يمينك على رغم أنفك؟ لا، معروف أن الشرع جاء لرفع الحرج، فالنبي عليه الصلاة والسلام علل لماذا شلت يد هذا بقوله: (ما منعه إلا الكبر) يرفض أن ينصاع لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام.

فهذه عقوبة الذي يتكبر أو يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، قالها صفوان بن عسال المرادي حتى يهون على زر ما وجده من تعبٍ في رحلته لأجل هذا السؤال، ولا يزال العبد يطمع في المزيد إن علم أنه يؤجر، وهذه طبيعة العبد، فالله تبارك وتعالى جعل عمله الصالح بمقابله الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

يقول بعض الناس: لا تعبد الله رجاء الجنة؛ ويقولون: نحن نعبد الله لذاته! وينسبون مقالة إلى رابعة العدوية، ولا نعرف هذه المقالة عن رابعة حتى نعتبرها صحيحة، حتى وإن قالتها رابعة فإنه يرد عليها قولها.

يقولون: إنها كانت تقول: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فأحرقني بها، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك لذاتك؛ فلا تحرمني من لقاء وجهك) ما هذا الكلام؟ أين نذهب بعشرات الأحاديث التي جاءت عن الرسول عليه الصلاة والسلام يستعيذ فيها من النار؟! وأين نذهب بقوله تبارك وتعالى: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:٢٠١]، وقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥]، وقوله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا} [الصافات:٦١] لمثل دخول الجنة وتجنب النار (فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١].

كيف يقال هذا الكلام؟ وهل هناك أحد يعبد ربنا لذاته هكذا؟! الذين يقولون بهذا القول هم من يقولون بمسألة الفناء، وهذا القول لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد من أصحابه أو التابعين ولا الأئمة المتبوعين، ولا أحد ممن تبعهم بإحسان.

ويقولون بوحدة الوجود وهو: أن كل ما تراه بعينك فهو الله؛ لأنه حل في كل شيء، تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً.