للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تصنيف الفوائد بعد تقييدها مما يعين على حفظ العلم]

إن قلت: هذه الكتب الكثيرة كيف أنتزع منها الفوائد؟ نقول: يجب أن يكون عندك طريقة منظمة في قراءة الكتب، وهذا على حسب اهتمامك، فمثلاً تقرأ في السير مثل سير أعلام النبلاء، فكلما مر بك تعليق لطيف للذهبي أو موقف من أحد العلماء في السلوك أو في الفتوى أو في الخوف أو في الورع أو في هذه الأشياء تدونه في بصورة مختصرة، وتكتب له عنواناً مناسباً ملائماً، حتى إذا أردت هذه الفائدة تستطيع أن تصل إليها.

فمثلاً: تقرأ في ترجمة عبد الله بن وهب قال: نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم، نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة.

فتأتي وتكتب على هذا المقطع: الإخلاص، أو أن الرجل إذا أخلص لا يهمه المدح والذم، فيستوي عنده المدح والذم، أو تقول مثلاً: هضم حظ النفس، لأن هذا فضح، والعادة أن الإنسان دائماً يكثر من ذكر نفسه بالجميل، لكنه فضح نفسه، فتعمل عدة عناوين لمثل هذه الفائدة وتضعها في بطاقة، وتكتب: (سير أعلام النبلاء، الجزء كذا، صفحة كذا).

وتمر مثلاً فتجد في ترجمة الدارقطني يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له، فهذه أيضاً تفيد الإخلاص، فأصبح عندك مثالين في الإخلاص.

وعندما تقرأ الكتاب ستكتب كلمة الإخلاص عشرين أو ثلاثين مرة، وفي نفس الوقت تكتب: كيف نعامل الشيطان، أو أي عنوان آخر مثلاً، وما وجه معاملة الشيطان في قصة ابن جريج؟ وتتمثل معاملة الشيطان في أن كثيراً من الطلبة ينصرفون عن العلم، يقول: أنا أخشى أن يقال عني: فقيه أو عالم فيحبط عملي، فنقول له: إن الدارقطني قال: طلبنا العلم لغير الله، أي: أنه لما كان حديث عهد بالطلب، ولم يكن عنده من فقه العمل شيء، لما طلب العلم طلبه من أجل أن يقال: الدارقطني المحدث الفقيه؛ لكن لما كان عنده من الإخلاص في الجملة صار كلما قرأ حديثاً انتفع بما فيه، فنفعهُ الله بهذا في الإخلاص، حتى صار فقيهاً وصار مخلصاً إلخ.

فإذا وجدت في نفسك صدوداً عن هذا العلم خوفاً من أن يكون من الرياء؛ فاعلم أن الشيطان يريد أن يصدك من هذا الباب، فتستخدم هذه في الرقائق والدروس.

وتمر مثلاً على جرح الأقران: فتجد أن قريناً جرح أخاه، مالك يقول في فلان من أقرانه: دجال من الدجاجلة، فتكتب أن جرح الأقران لا يضر، وبعدما تنقل فوائد هذا الكتاب تأتي بالبطاقات، وتضع كل عنوان مشترك مع أخيه، فتضع الإخلاص مع بعضه، وجرح الأقران مع بعضه، وهكذا فاقرأ الكتب على هذا الاعتبار، ستجد بعد نهاية القراءة أنه أصبح عندك بطاقات كثيرة في موضوعٍ واحد، ثم تبدأ بتصنيف هذه الموضوعات: فإذا أردت أن تتكلم عن الإخلاص فلديك بحر من الأمثلة، فأنت بهذه الصورة تكون قد استطعت توظيف هذه القراءة إذا كنت خطيباً، أو مدرساً، أو مؤلفاً، تستطيع أن تطعم كتبك أو تطعم دروسك بما يحار الإنسان في إيجاده من تلك الأمثلة والنكت.

وإذا قرأت كتاباً في الحديث ككتاب التهذيب فتجد أحياناً تنبيهاً على بعض مصطلحات العلماء، أو تقرأ في كتاب مثل علل الحديث لـ ابن أبي حاتم فتقف على أشياء لا تقف عليها أبداً إذا اقتصرت على كتاب من كتب أهل العلم، يعني: هناك شيء اسمه كلمات الثناء التي ظاهرها الجرح، فإذا لم تقف على أصل مغزاها حكمت على ظاهرها، فيكون خطأً، فمثلاً في ترجمة إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في تهذيب التهذيب آخر كلمة في الترجمة ذكرها الحافظ ابن حجر، قال: وذكر عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: إسرائيل لص يسرق الحديث.

فكلمة يسرق الحديث معروف أنها جرح، فإذا ذهبت لكتاب ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل فتجد العبارة بخلاف ما فهمت، فـ ابن أبي حاتم رواها عن أبي بكر بن أبي شيبة وليس عثمان، وعثمان أقوى من أبي بكر وأبو بكر أوثق الرجلين، فرواها عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: كان إسرائيل في الحديث لصاً، وليس هناك (يسرق)، فقال ابن أبي حاتم: أي: يتلقف العلم تلقفاً، إذاً: هذا مدح؛ كما أن اللص إذا دخل تلقف؛ لأنه مستعجل، فهذا إسرائيل بن يونس يتلقف العلم تلقفاً، وكما أن السارق إذا دخل انتقى الجيد من المتاع؛ ما خف وزنه وغلى ثمنه، فكذلك إسرائيل ينتقي حديث مشايخه، فترى أن الحافظ ابن حجر روى الرواية بالمعنى، فسواءٌ كان الحافظ هو الذي ذكرها أو عثمان بن أبي شيبة هو الذي ذكرها بالمعنى فقد أفسد الكلام، فبوقوفك على هذا تكون قد وقفت على فائدة، لكن إن لم تقف على هذه الفائدة فمن الممكن أن تقول في أي حديث مثلاً: ولكن إسرائيل يسرق الحديث، فتتهم الرجل ولا تهمة عليه.

كذلك في كتاب علل الحديث لـ ابن أبي حاتم كلمة في ترجمة إسماعيل بن أبي رجاء خلت منها كتب التراجم وهي أن شعبة سئل عن إسماعيل بن أبي رجاء فقال: ذاك شيطان!! والشيطان لا يفهم منه إلا الذم، فقال ابن أبي حاتم: يعني من حسن حديثه.

يعني: هل رأيت الجن عندما تأتي بالخوارق، حتى إنهم ذكروا أن يحيى بن معين قال في راوٍ: أظن أن أباه تزوج بجنية؛ لأنه كان صاعقة في الحفظ، يعني هذا الحفظ ليس لآدمي، فيقول إسماعيل بن أبي رجاء شيطان، يعني: من حسن حديثه، فلولا هذا التخصيص لقلنا: إنه شيطان، وقال شعبة: إنه شيطان! فإذا نظمت هذه الفوائد وعرفت كيف تجمعها في بطاقات سلِم لك جمعك، لكن عندما تقرأ على غير هدى، وليس عندك خطة في الكتب فتمر بك الفائدة فتستملحها، ولكن تحتار أين تضعها؟ وكيف تحفظها؟ حتى إذا احتجت إليها أخذتها.

إذاً: لابد من القراءة المنهجية في أي كتاب وأي فن، وهذه الطريقة هي أسلم الطرق، وهي أن يكون لك منهج في قراءة الكتب كلها، فتمسك بالكتب كتاباً كتاباً وتقرأ، فما مر بك كتبته بعنوان يناسبك، حتى وإن خالف عنوان الكتاب، المهم أن يناسبك أنت حتى إذا أردت أن تستحضر هذه المادة استحضرتها، وهذه هي أجود وسائل الطلب واستخراج الفوائد من الكتب، وجرب هذه الطريقة ستجد أنك بفضل الله تبارك وتعالى ستحصِّل فضلاً غزيراً لم يخطر لك على بال، والله أعلم.