للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استحضار إحسانه سبحانه وتعالى]

ثالثاً: استحضر إحسان الله إليك، وأنه المبتدئ عليك بنعمه قبل أن تستحقها، وليس من شيمة الكريم أن يرد الإحسان وأن يعقبه بالإساءة، فاستحضر إحسانه عليك: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] لا تستطيع أن تعدها في بدنك فضلاً عن السماوات والأرض، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:٥٧]، استحضر أسماءه وصفاته وآثارها في الكون، لا تعصه طرفة عين، هو لا يستحق منك ذلك، وهو المتفضل عليك.

واعتبر بحياة الناس: إذا لم تعلم صفات الرجل ما الذي يغضبه، وما الذي يحبه؛ فلا تستطيع أن تمد جسور الود بينك وبينه، كما أنك لا تستطيع أن تستلب قلوب الناس إلا إذا علمت ما يحبون فتفعله، وما يكرهون فلا تفعله، وقد ذكر العلماء في ترجمة شريح القاضي رحمه الله أنه جالس الشعبي عامر بن شراحيل، وكلاهما من التابعين الكبار، فقال له الشعبي: (يا شريح! كيف حالك مع أهلك -مع زوجتك-؟ قال: والله -يا شعبي - تزوجتها منذ عشرين عاماً فما رأيت منها سوءاً قط.

قال له: وكيف ذلك؟ قال: في الليلة التي دخلت بها رأيت جمالاً نادراً وحسناً فتاناً أخاذاً، فقلت: لأتطهرن وأصلين لله تبارك وتعالى شكراً، فقمت فتطهرت وصليت، فلما سلمت وجدتها صلت بصلاتي وسلمت بسلامي، فمددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية -ويستحب للزوجة إذا نادت زوجها أن تناديه بكنيته، كما قالت امرأة إبراهيم عليه السلام: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:٧٢] (بعلي): والبعل هو السيد، وكانت امرأة أبي الدرداء إذا نادته تقول له: يا سيدي- قالت: على رسلك يا أبا أمية، فإنني امرأة غريبة، وابتدأت الخطبة، فقالت: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله.

أما بعد: فأنت رجل غريب عني وأنا غريبة عنك، ولا علم لي بأخلاقك، فقل لي ما تكرهه فأجتنبه، وما تحبه فأفعله، وقد ملكت فافعل كما أمرك الله عز وجل: {إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩]، واعلم أنه في قومك من كانت كفئاً لك وتستحقك، وكان في قومي من كان كفئاً لي ويستحقني، ولكن إذا أراد الله شيئاً فعل أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قال شريح: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة -أي: أنها خطبَتْ خطبة عصماء! فهو سيخطب في مقابلها خطبة أخرى- فقال: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله.

أما بعد: فقد قلتِ قولاً لو ثبتِ عليه نفعكِ، وإن كنتِ تدعينه كان حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا.

فقالت له: وكيف صلتك بأهلي -أي: الزيارات لأهلها-؟ قال: لا أحب أن يملني أصهاري -يعني: نجعل الزيارات متباعدة-.

قالت: وجيرانك؟ قال: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، قال: وبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها عشرين عاماً ما اختصمت معها إلا في مرة واحدة، وكنت ظالماً لها).

لماذا عِشرة عشرين سنة بلا مشاكل؟ لأنها تعرفت على صفاته، يكره كذا ويحب كذا، كذلك الله -وله المثل الأعلى- يكره كذا ويحب كذا، فلا يراك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، وهذا في الناس مثل ضربته، ولله المثل الأعلى، قال لك: افعل كذا وكذا، فكيف لا تفعل؟ ونهاك أن تفعل كذا وكذا، فكيف تجرأت على الفعل؟