للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغلو في الدين وأنواعه]

هذا التعنت وهذا الجحود وهذا الغلو في رد أمر الله تبارك وتعالى امتحنت به هذه الأمة، امتحنت بالغلو العقدي، وامتحنت بالغلو الجزئي في العمل، مع الفرق بين النوع الأول والثاني، الغلو الاعتقادي أشر؛ لأن صاحب البدعة لا يدع بدعته على الإطلاق مهما عُير، ثم هو يظن أن بدعته دين، فهو يريد أن يمضيه على الناس، كالخوارج مثلاً.

النبي عليه الصلاة والسلام وصف الخوارج بأنهم أعبد الناس، وأكثر الناس صلاة وصياماً، وأقرأ الناس للقرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، هؤلاء الناس ماذا يفعلون؟ قال عليه الصلاة والسلام: (يقتلون أهل الإسلام ويذرون أهل الأوثان)، يقتلون أهل الإسلام، فجماعة الهجرة والتكفير تعتقد أن دمي ودمك حلال، بينما النصارى واليهود أمنوا على دمائهم من هؤلاء.

ففي مرة من المرات أحد المبتدعة مر على فرقة من فرق الخوارج، ومن المعلوم أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين، فأول ما عرف أنه وقع -ومن معه- في قبضة الخوارج، قال: أنا سأحتال لكم حيلة، حتى ننجو بجلودنا، فقال لأصحابه: أنا سأتكلم عنكم وأنتم لا تتكلموا، فلما دخلوا على هؤلاء الخوارج، سألوهم من أنتم؟ قال: نحن قوم مشركون، جئنا نسمع كلام الله، فنجا ومن معه من الهلاك المحقق؛ لأنه قال: أنا مشرك، لو قال لهم: أنا مسلم لقتلوه.

وذلك من فهمهم لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:٦]، فأخذوهم وأسمعوهم كلام الله، وأمّنوهم فقالوا: اتركونا نفكر في كلام الله الذي سمعناه، ونجوا بذلك، فالخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.

رجل اغتاب أحد المسلمين عند الحسن البصري فقال له الحسن: سلم منك اليهود والنصارى والمجوس ولم يسلم منك أخوك المسلم، يعني أنه يغتاب أخاه في هذه المدة، وقد سلم من لسانه اليهودي والنصراني والمجوسي؛ فهؤلاء يتحركون بهذه العقيدة؛ لأن هذا الانحراف والغلو العقدي أخطر بكثير من الغلو العملي الذي غاية ما فيه أنه يتعلق بالشخص ذاته.

كما في حديث أنس في الصحيحين أن رهطاً جاءوا أبيات النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عمله، فلما سمعوا أنه يتزوج النساء، وأنه يقوم وينام ويصوم ويفطر، قال بعضهم لبعض.

هذا رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي: هذا رسول الله عمل أو لم يعمل فهو مغفور له، أما نحن فلابد أن نجدّ ونجتهد، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، والثاني قال: أقوم ولا أنام، والثالث قال: أنا لا أتزوج النساء، فقصت عائشة رضي الله عنها هذا الكلام على النبي عليه الصلاة والسلام، فأزعجه الأمر، ونادى في الناس، فاجتمعوا فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، ألا إني أتقاكم لله وأشدكم لله خشية)؛ وذلك لأنهم تقالُّوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام فهؤلاء في نهاية الأمر وقعوا في الغلو الجزئي العملي الذي يعود على الشخص نفسه، بخلاف الغلو الاعتقادي، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، إذ أن أصحاب الثنتين والسبعين فرقة غلوا في الاعتقاد وخرجوا عن الحنيفية السمحة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (كلها في النار) بسبب انحرافهم عن الجادة: (إلا واحدة).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.