للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغلو في الطاعات ممنوع]

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:١١٢]، الطغيان: هو الغلو، وترك الاستقامة، ولذلك الغلو يحتاج إلى توبة حتى وإن كان في الشيء، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لـ ابن عباس في الحج: (التقط لي مثل حصى الخذف وإياكم والغلو، فإنه أهلك من كان قبلكم) حصى الخذف الحصيات التي ترجم بها الجمرات في منى وتجمع من مزدلفة ينبغي أن تكون صغيرة مثل حبة الفول، هذا معنى مثل حصى الخذف، مثل الحجر الذي يوضع في المقلاع، فإذا أراد شخص أن يرمي بالمقلاع فإنه لا يأتي بحجر كبير إنما يأتي بحجر صغير، أي بمثل الحجر الذي تخذف به إذا رميت بالمقلاع.

و (إياكم والغلو): أي إياك والغلو في اختيار حجم الحجر، فالشخص إذا زاد عن مثل حبة الفول في اختيار الحجر فقد غلا، حتى في هذه الجزئية البسيطة، (إياكم والغلو)، إن رمي الجمرات مسألة رمزية، أنت عندما ترمي الجمرات هذه مسألة رمزية، حتى يذكرك بالعداوة التي بينك وبين الشيطان، والتي نسيتها من جملة ما نسيت العداوات في الدين، من منا يكره اليهودي كرماً دائماً، أو النصراني كره دائم، ألم يبق في قلوبنا غيرة وحمية لرب العالمين؟! ألم يُشتم ربك؟! ألم يُسب ربك؟! قال الله تبارك وتعالى: (شتمني ابن آدم، وما كان له أن يشتمني، وكذبني ابن آدم، وما كان له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً، وأنا الله الأحد، الفرد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد) هذه جريمة؛ لأن نسبة الولد إلى الله تنقيص له تبارك وتعالى، فاليهود والنصارى يشتمون رب العالمين بذلك، من يكرههم في داخله أول ما يراهم ويحمل الغل عليهم، هل هذا موجود؟ لا.

ما هو السبب؟ ضياع عقيدة الولاء والبراء، لو أن رجلاً سب أباك لربما دخلت معه في معركة وضحيت بحياتك؛ لأنه سب أباك، وهذا يسب رب العالمين، فأين ولاؤك له.

جيء برجل نصراني مرة إلى شريك بن عبد الله النخعي -أحد قضاة المسلمين- وكان هذا الرجل وثيق الصلة بامرأة أمير المؤمنين، يخدمها، وكان يظن أن صلته بزوجة أمير المؤمنين قد ترعب القاضي، لكن القضاة في ذلك الزمن كانوا متدثرين بالدين، وعزهم كان بعز هذا الإسلام، وكان الخلفاء يوقرونهم فقضى عليه شريك بالجلد، فجلد الرجل وبعد ذلك ركب بغلته مذلولاً ومتضايقاً يضرب البغلة، فقال له شريك: ويحك لا تضربها فإن البغلة التي تركبها هذه أعبد لله منك.

(وكذبني ابن آدم، وما كان له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقوله أنني لا أحيي الموتى، وليس آخر الخلق بأشق علي من أولهم) إنشاء الإنسان من عدم يختلف عن إنشائه بعدما كان له أصل، الأول أقوى، فهؤلاء كذبوا الله وشتموه.

ظهر في هذه الأزمنة مصطلح الأخوة الإنسانية والوحدة الوطنية، وهذا ليس تحريضاً مني على النصارى ولا على اليهود، لكن هذه مسألة عقيدة، نحن لا نظلم أحداً، ولا نجور على أحد، ولا نستحل مال أحد، ولا نستحل دم أحد، إلا بشرع الله.

لا تقولوا أنني أتعنت في ذلك، نحن لا نستحل مال ولا دم أحد ونعاشر بالمعروف ولا نظلم، لكن يبقى لي عقيدتي التي لا أفرط فيها، لا أظلمه لكن أكرهه، ولا أحبه ولا أواليه ولا أقول يوماً ما: إنه أخي أبداً ولا تخرج من فمي ولا تجري على لساني؛ لأن هذا حرام، هذه كبيرة من الكبائر، لا يحل للمسلم أن يقول: إخواننا اليهود أو النصارى، ولا أتولاهم ولا أحبهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:٥١]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع من أحب).

الغلو في الدين حتى في مقدار الحجر الذي ترمى به الجمرات ممنوع، الغلو في الدين حتى في الطاعات ممنوع، في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين، قال: لمن هذا؟ قالوا: لـ زينب إذا تعبت من كثرة القيام لله، طرحت جسدها على هذا الحبل لتريح رجليها، فقال عليه الصلاة والسلام: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد، إن الله لا يمل حتى تملوا).

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلعله يسب نفسه وهو لا يدري).

حتى في هذه الطاعات الغلو ممنوع؛ لأن القلب له إقبال وإدبار: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، فالغلو حتى في العبادة ممقوت، ونهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا دعوة إلى الكسل والنوم والخلود للراحة، بدعوى عدم الغلو، لا.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ليصل أحدكم نشاطه) آخر طاقتك افعلها، فإذا أحسست بالفتور اجلس حتى لا تكره العبادة، وحتى تكون مقبلاً على ربك تبارك وتعالى.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.