للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب تسوية الصفوف ومخالفة كثير من المسلمين]

إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

من الأشياء التي ينبه عليها بمناسبة الكلام على السبب وأنه يجب على كل إنسان أن يفعل ما أُمر به: أولاً: هذا الخط الموجود على الأرض في المساجد لتسوية الصف -زعموا.

-.

هذا أولاً هو بدعة ثانياً: لماذا وضع هذا الخط على الأرض؟ وضع بعدما قصر الإمام في أداء مهمته، فتراه يقول للناس: استووا وظهره باتجاههم، أو يقول: استووا، قبل أن يقوم الناس إلى الصفوف، ولا يقفون في الصف إلا وقد بدأ يقرأ في الفاتحة، وهذا لا ينبغي، إنما المفروض أن يفعل الإمام ما هو مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويته للصفوف وحث الناس على ذلك، وهذه هي مهمة الإمام، وللأسف تجد عند كثير من المسلمين أن الإمام لا يطبق سنة تسويته للصفوف، وإذا لم يكن حاضراً يتدافع الناس كل يدفع غيره للإمامة، ويمتنع عن التقدم ولو كان عنده علم، وقد يتقدم جويهل لا يعرف السنة.

وبالمقابل أناس يحرصون على الإمامة على جهل بالسنة، وهذا شيء عظيم خطير؛ لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الاندفاع إلى الإمامة، بسبب خطرها وجسامة منصبها، وإننا قصرنا جداً في فهم ما يناط بنا، لدرجة أنك لو دخلت مسجداً من مساجد المسلمين، وصادف أن الإمام غائب أو أن المسجد ليس له إمام راتب، تنظر العجب، كل واحد يعزم على الثاني يقول له: تفضل، والآخر يقول: لا -والله- أنت تفضل، وقد يتقدم من ليس له علاقة أبداً بالإمامة، وقد يكون أول مرة يصلي بالناس، مع أن المفروض في الإمام أن يكون فقيهاً، يعرف أحكام الصلاة، ويعرف ما ينبغي في الصلاة، لكن هذا يدخل وليس عنده فكرة عن الصلاة.

وفي ذات مرة تعازموا أيضاً على نفس المنوال، وكان هناك واحد رآهم يتدافعون فحسم الموقف ودخل هو، وبعد وذلك التفت إليهم وجعل يفرك في يديه، ما هو الذي يقوله الأئمة قبل الصلاة؟!! يسأل نفسه.

وهي يقصد قولهم: استووا واستقيموا، لكنه لا يعلم ذلك لأنه لا يحضر الجماعة وإنما دائماً غائب، فقعد يفرك يده ويفكر في نفسه: ماذا يقول الأئمة قبل الصلاة؟ فقال لهم أخيراً: (جاهزين يا رجالة؟ نعم يا معلم!) تصور عندما يكون هذا هو الإمام، مع أن الإمامة شأنها عظيم كما ورد في سنن الدارقطني، قال: (تخيروا أئمتكم فإنهم وفدكم إلى ربكم).

أي: أن الإمام كأنه هو رئيس الوفد معك إلى الله، فلابد أن يكون قدوة في فقهه وعلمه وأخلاقه، كما أننا لو عيَّنّا شخصاً أنوك (أحمق) نجعله لنا رأساً، ماذا يقول الناس عنا؟ وكذلك أي دولة عندما تختار سفيراً، فإنها تختاره حسب أعلى المستويات لأن هذا السفير لو كان سيئاً في تصرفه سيؤدي بسمعة الدولة في الحضيض، فلازم أن يكون السفير ذا ذوق، متكلم، مجامل إلخ هذه الصفات التي يتطلبها عمله.

وعليه فوفدنا إلى الله في الصلاة إذا كان رأسه لا يدري شيئاً، فهذا إزراء بكل المصلين؛ لأن الرأس إذا لم يكن مستقيماً أزرى بكل مرءوسيه.

ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة، جاءت بعض القبائل تهنيه، فقبيلة من القبائل أرسلت وفداً يرأسه شاب، فدخل الشاب يهنئ عمر بن عبد العزيز بالخلافة، فكأنه استصغره، ووجد أنه ليس أسن القوم، قال: يا بني! أما وجدوا من هو أكبر منك؟!! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كانت المسألة بالسن لكان هناك من هو أولى منك بالخلافة، قال له: أفلحت.

فالرأس مهم، إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام شدد ولفت النظر إلى الصف الأول وأكد على فضله وأهميته فقال: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى)، فما بالك بالإمام، يجب أن يكون أولى بهذه الصفات السامية من الصف الأول؛ لأنه (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن استووا فأعلمهم بالسنة، فإن استووا فأقدمهم هجرة، فإن استووا فأكبرهم سناً) يعني: إذاً المفترض أنه لا يوجد في الصف الأول أحد يساوي الإمام، طالما والمسألة مفاضلة، وبعد ذلك يليه في الفضل الصف الأول، وهذا هو المفروض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، فإذا كان إمامهم يقول لهم: (جاهزين يا رجالة!) تصور للصف الأول كلهم (معلمين) إذاً، يعني: ليس فيهم أهل أن يقف في الصف الأول فضلاً عن أن يكون إماماً، الصف الأول يجب أن يكون فيه أولوا الأحلام والنهى لماذا؟ لأنهم أدرى الناس بما يلابس الإمام في الصلاة حتى لا يختل نظام الصلاة، ولك أن تتصور -مثلاً- أن الإمام وهو في الركعة الأولى اكتشف أنه ليس متوضئاً، ماذا يفعل؟ المفترض أنه ينسل ليستخلف ممن وراءه ويذهب يتوضأ ويرجع ويصلي مأموماً مع الإمام الجديد.

والإمام الجديد الذي استخلفه يبني على ما مضى من الصلاة يبني على ما مضى في الركعات وليس في القراءة، أي ليس بالضرورة إذا كان الإمام يقرأ في سورة معينة أن الإمام المستخلف يأتي فيواصل القراءة من نفس السورة، إنما يبني على ما مضى أي في عدد الركعات، فإذا كان الصف الأول ليس فيه من هو أهل للإمامة، فتصور كيف يكون نظام الصلاة.

ذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين في فصل الحمقى والمغفلين من الأئمة، أن شخصاً اكتشف في الركعة الثانية أو الثالثة أنه ليس متوضئاً فشد شخصاً ممن وراءه وذهب ليتوضأ، ثم إن هذا الإمام المستخلف، وقف لا ينطق لا يتكلم لا يتحرك، فلما يئسوا منه شدوه وقدموا رجلاً آخر، فأتم الصلاة، وبعد الصلاة سئل الثاني: لماذا لم تفعل شيئاً؟ كيف وقفت ساكتاً؟ قال ظننت أن الإمام يقول: احفظ مكاني حتى أجيء.

فالمفروض أن يحرص على الصف الأول أفضل الموجودين، ثم إن التخلف عن الصف الأول ليس من الورع، فقد يقول لك قائل: صليت في الصف الأول كأني أزكي نفسي، هذا ورع كاذب، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يتأخر عن الصف الأول، فقال كما في الصحيح: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله).

لا يوجد ورع في هذه المسألة، الصف الأول لا يوجد فيه شيء اسمه ورع، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو علم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) لو دخل رجلان فوجدا فرجة في الصف الأول حضهما على أن يستهما عليه -أي: يعملان قرعة- من الذي يصلي في الفرجة التي بقيت في الصف الأول؟ إذاً: كيف يتخلف الإنسان عن الصف الأول؟! فالواجب أن يكون أفضل من في المسجد هم الذين يحرصون على الصف الأول.

فلما كان أئمتنا هكذا، لا يعلمون شيئاً عن واجباتهم في الصلاة، فهذا هو الذي جعل الناس يضطرون إلى الخط الذي يوجد على الأرض والسبب هو أن الإمام غائب عن مهمته.

والمفروض على الإمام أنه لا يقيم الصلاة حتى يطمئن إلى تسوية الصف، ونحن حاولنا أن نفعل هذا فضج المصلون، لنا شهران أو ثلاثة ننبه حول هذا الموضوع، ولا توجد أية فائدة لم يستطيعوا أن يستسيغوا الموضوع، وغاية ما يريد أحدهم أن يصلي ويخرج مسرعاً كأنه مسجون.

في صلاة الجمعة المفروض على الإمام ألا يصلي حتى يذهب إلى آخر صف ويجدهم استووا تماماً، أو يرسل شخصاً يسوي الصفوف، ثم تبدأ الصلاة، حاولنا عبثاً مع جماهير المصلين، وكل مرة ننبه، ونقول: نحن وإن تأخرنا خمس دقائق لكي نسوي الصفوف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال كذا وكذا، ومن أثر تسوية الصفوف أن تلتئم القلوب، وتحاول اقناعهم، (وأول ما تخلص الصلاة يقوم فلان من الناس ويصيح قائلاً: حبستمونا ممن أعمالنا.

فمتى تلتئم القلوب، وهو مع ذلك يقف على باب الجامع ربع ساعة ونصف ساعة يتكلم فيما لا يفيد، أما بين يدي الله، فهو عجل، يتعجل الفراق، أنى يفتح لمثل هذا؟ ونكرر أن هذا الخط الذي على الأرض هذا، إنما كان بسبب عدم أخذ الإمام بما يجب عليه، التفات القلوب بعضها عن بعض إنما كان بسبب أننا لم نأخذ بما وجب علينا من السبب، لذلك منعنا الأثر، نحن نقول للمسلمين: الأخذ بالسبب ضروري، لكن يجب أن نعلم أن السبب ليس مؤثراً دائماً وإنما بمشيئة الله كما ذكرنا ذلك، بل أنت قد تفعل كل ما في وسعك ولا تصيب الثمرة، لماذا؟ لعدم إخلاص القلب، فلو علم الله تبارك وتعالى منا أننا صرنا عبيداً له أعطانا الثمرة، ولو بأقل مجهود، ليس دائماً، لابد أن تحسن عملك مثلاً ١٠٠% لتصيب الثمرة ١٠٠%، لا.

فيمكن أن تكون ضعيفاً، وجهدك لا يصل إلا إلى ٢٠% فقط، ويتمم لك الله الثمرة ١٠٠% لماذا؟ لما علم من حسن توجهك، ولا يلومك على العجز، لأنه فوق طاقتك وإمكانك.

إنما أنبه على ذلك حتى لا يلتبس المعنى إذا قرأ واحد منا حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على رجل، فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا علي الرجل، فردوه، قال: ماذا قلت؟ قال: قلت حسبي الله ونعم الوكيل، قال له: إن الله يلوم على العجز، ولكن إذا غلبك شيء فقل حسبي الله ونعم الوكيل).

إن الله يلوم على العجز، العجز هنا هو الحمق وسوء التصرف، فإذا أساء العبد التصرف بحمقه، فلا يلومن إلا نفسه، إنما إذا سلك الأسباب كما أمر فغلب على ذلك فليقل حسبي الله ونعم الوكيل.

(إن الله يلوم على العجز) العجز هنا هو الحمق وسوء التصرف، بخلاف الكلام الذي أنا أذكره، الذي قلت: إن الله تبارك وتعالى إذا عجز العبد لا يلومه، أي: إذا عجز العجز الذي هو ضد الإمكان؛ لأنه إذا لم يستطع أن يفعل فإن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها.