للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أصناف أهل الجنة]

وقوله:: (وأهل الجنة ثلاثة)، هنا لا بد من وقفة أصولية مهمة، ونحن في أمس الحاجة لفهمها؛ لأن الجهلة الذين يعتدون على السنة يتكئون عليها، وما من مبطل يحتج بدليل صحيح إلا وكان في الدليل إهدار لاستدلاله لو كان يدري.

قال: (ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)، فهل هؤلاء هم الذين يدخلون الجنة فقط أو سيدخلها الألوف والملايين بألوف وملايين الأعمال؟ فما معنى حصر الكلام على هؤلاء؟ نقول: هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وعدهم، فهل هؤلاء هم الذين ينعمون بالظل فقط؟ لا.

فقد ثبت في أحاديث أخرى أن آخرين ينعمون بظل الله تبارك وتعالى.

فما معنى قوله: (سبعة) وعدهم، والأرقام قطعية الدلالة لا تحتمل تأويلاً، ولا يختلف العاد منها.

والعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن منجماً، ولو شاء الله لأنزل القرآن جملة واحدة، وإنما أنزل الله تبارك وتعالى الآيات مفرقة على رسوله صلى الله عليه وسلم رعاية للحوادث؛ ويكون للكلام مقتضى، فمثلاً ينزل قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:٢٤٥]، فيسمع الآية أبو الدحداح رضي الله عنه، فيقول: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض، فيقول: نعم) ولأنه رضي الله عنه معظم لربه عرف معنى القرض بمعناه الصحيح، وليس أن ربنا فقير ويريد أن يقرضه أي أحد مثلما قالت اليهود عندما سمعوا هذه الآية، قالوا: إن رب محمدٍ افتقر.

وما ذاك إلا لأنهم كفار بالله لا يعظمونه، ومن يعبد العجل من دون الله خليق به أن ينسب كل نقيصة إلى ربه، لكن أبا الدحداح مسلم ومعظم لله، ففهمه على معناه الصحيح.

(قال: الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم.

قال: يا رسول الله! إن لي حائطاً فيه ستمائة نخلة، فما لي عند ربي إن أقرضته حائطي.

قال: لك الجنة.

قال: أشهدك أني أقرضته حائطي) فهذه آية نزلت بمفردها، وربما لو نزلت مع جملة السورة ما انتبه لها أبو الدحداح.

وكذلك ما حصل عند موت النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما شرع يلوح بسيفه ويقول: (من قال: إن رسول الله مات لأعلونه بسيفي هذا.

حتى جاء أبو بكر، فقال: على رسلك أيها الحارس، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:١٤٤]، فسقط السيف من يده، وقال: والله لكأني ما سمعتها إلا الآن).

فهذه آية كان يقرؤها عمر لكنه لم يكن لها مقتضى عنده، لذلك مر عليها ولم يستطع أن يستحضرها لهول المصاب وجسامة الخطب، ذهبت عن باله.

وفائدة نزول القرآن منجماً: أنه يكون له مقتضى، وينفعل المسلمون له كما انفعل أبو الدحداح حين خرج وترك المجلس وذهب إلى امرأته، ووقف على باب البستان ولم يدخل، ونادى امرأته، وقال: يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي.

فقالت المرأة: ربحت البيح يا أبا الدحداح.

فخرجت المرأة بعيالها، ولم تراجعه ولم تقل له: يا رجل! لو كنت تركت نصف المال وأقرضت ربنا نصفه، كما يفعل كثير من الناس، إذا طولب أن يبذل شيئاً نظر إلى رأس ماله، ثم يقول: أعطيه الربع، أعطيه الثلث.

إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بلالاً يقول كلمة فأعجبته ورددها خلف بلال، سمع بلالاً يقول: (أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) فأعجبته الكلمة! والقرآن نزل منجماً؛ حتى يكون له مقتضى، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يستوفي كلامه كله على المسألة الواحدة في المجلس الواحد، وإنما كان يتكلم على مقتضى المجلس، فليس من شرط المتكلم إذا أراد أن يتكلم في مسألة أن يذكر كل ما يتعلق بالمسألة؛ فإن هذا أمر يطول، والإنسان ليس عنده من الوقت ما يكفيه لذلك، لكن حسبه أن ينبه على ما يقتضيه المقام.

أي: كلمة مجملة، وهذه الكلمة قد فصلها في مجلس آخر، فليس بالضرورة كلما قال كلاماً مجملاً أن يفصل فيه مرة أخرى، ولكن على المستدل إذا أراد أن يجمع المتفرق من الكلام حتى يستقيم له المعنى.

إذاً: مهمة الجمع -الأقوال كلها- إنما تكون على عاتق من يريد الاستدلال، وليست على عاتق المتكلم، إذ يصعب عادةً أن يتكلم المرء على المسألة في كل مرة بكل الكلام الذي يحيط بها.

فهكذا كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينزل الكلام على المقتضى، وإلا لو أخذنا كل حديث لوحده سنضيع الدين، واسمع هذه الجملة من الأحاديث، وخذ كل حديث وحده.

قال صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله قدميه على النار)، خذ هذا الحديث لمفرده، وخذ مثالاً: رجل لا يصلي، ولا يزكي، ولا يصوم، ولا يعمل شيئاً، ولما جاء الغزو ذهب وعفر رجليه، هذا الرجل هل سيحرم الله قدميه على النار وهو لا يصلي ولا يزكي ولا يعمل شيئاً، لكن حقق الذي ورد في الحديث.

قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فُواق ناقة وجبت له الجنة) (فواق ناقة): أي: بمقدار حلب الناقة، يعني: قاتل في سبيل الله ربع ساعة تقريباً فوجبت له الجنة.

حسناً هناك آخر قاتل في غزوة كاملة، وقتل ثمانية؛ ودخل النار، كما في الحديث الصحيح: (أن رجلاً رأوه في القتلى في آخر رمق، وكانوا قد تركوه كافراً، فلما رأوه بين القتلى، قالوا: يا فلان! مالك؟ ما الذي جاء بك؟ أأسلمت؟ فقال: لا.

إنما جئت حدباً على قومي).

عصبية، أتى ليحارب مع أولاد عمه، وهناك مثل جاهلي (أنا وابن عمي على الغريب) أي: عصبية.

وقد يقول قائل: هذا كافر والجنة محرمة على الكفار، فنقول: وهذا آخر مسلم، وكان شجاعاً وقاتل وقتل، فذكروه عند النبي صلى الله عليه وسلم: أنه شجاع، وأنه قاتل قتال الأبطال، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو في النار.

فقالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بعباءة غلها)، انظر الخذلان! عباءة سرقها من المغانم قبل أن توزع فدخل النار بها.

نعوذ بالله من الخذلان.

وقد يقول قائل: إذاً: أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تناقض بعضها بعضاً؟ فمن قاتل فواق ناقة وجبت له الجنة، وهذا رجل قاتل عشر ساعات تقريباً ودخل النار لأجل عباءة غلها.

فكان لابد من الجمع بين الأحاديث، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمين صبراً، أدخله الله النار وحرم عليه الجنة قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن قضيباً من أراك) أي: سواك.

وما قيمة السواك؟! ولو أن شخصاً أخذه من شخص آخر، وقال: هذا السواك لي، كان جزاء الرجل ما ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (أدخله الله النار وحرم عليه الجنة).

والخوارج يستدلون بهذا الحديث وما شابهه على تكفير المسلمين بالكبائر؛ لأنهم أخذوا هذا الحديث وحده.

والمتأمل في الحديث يجد أن هذا ذنب، وهو كبيرة من الكبائر، وقد وعد الله عز وجل عباده؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، وكل وعيد في القرآن لا يتحقق إلا إذا أصر عليه صاحبه، ولم يتب منه، لأن التوبة تسقط الوعيد.

فإذاً: لا بد من جمع الأحاديث ومن ثم نحكم على المعنى كله، لا أن نأخذ حديثاً واحداً ونحكم به، فهذا عمل منكر عند جمهور العلماء، ويئول بصاحبه إلى الكفر، لأنه سيتهم رب العالمين بالتناقض والظلم تعالى الله عن ذلك.

وكذلك القرآن فيه آيات ظاهرها التعارض، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤]، يعني: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:٢١]، هذا معنى الآية: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:٣٨] فليس عليك شيء من وزر أبويك، ولا من وزر أحد، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:١٣] يعني: أثقالاً أخرى.

أي: أنه سيحمل ما ارتكبه هو وما ارتكبه غيره فكيف نوفق بين الآيتين؟ نقول: كلام أهل العلم في هذا أوضح من أن يخفى على الجهلة، وهو أن المعني بهؤلاء الذين يحملون أثقالهم وأثقال غيرهم الذين أضلوا الناس.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.