للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان تواضع النبي ووجوب الاقتداء به]

وكان أبوه يريد أن يزوجه ولكن عبد الله لم تكن له رغبة في الزواج، ومع ذلك زوجه امرأة ذات حسب من قريش، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلما أدخلوها علي.

العادة أن الرجل هو الذي يدخل على المرأة لا العكس.

أنا اخترت رواية الإمام أحمد وإن كانت رواية البخاري قريبة منها، لأن رواية أحمد فيها فوائد.

يقول: فلما أدخلوها علي جعلت لا أنحاش لها -لا يريد أن يقترب منها ولا يراها- مما أجد بي من القوة في العبادة، لما أدخلوها عليه تركها وقام يصلي، فبدأ يصلي وترك زوجته دون أن يقربها أو يمسها.

علم عمرو بن العاص رضي الله عنه أن ابنه سيفعل هذا الشيء وأنه لن يلمسها، فذهب في الصباح الباكر وسأل كنته -الكنة: زوجة الابن- ما حال عبد الله معك؟ قالت: والله كخير الرجال، نعم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، انظر إلى المرأة وحيائها، فإنها لم تفضحه وإنما قالت: كخير البعولة؛ لأن العبد إذا كان مقبلاً على الله تبارك وتعالى وبمثل هذا الجد في العبادة فهو خير الناس، قالت: نعم العبد لربه، غيره أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فأقبل علي أبي فعزمني العزم -هو أشد اللوم- وعضني بلسانه، هل سمعت بلسان يعض؟ المقصود هنا هو: الشتم، وقال له: أنكحتك -يعني هو الذي زوجه غصباً عنه، لأنه ما كان يريد أن يتزوج- أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، أي: شققت عليها، ولم تقم بما يجب عليك نحو أهلك، فلما يئس منه قال: لا يوجد أحد سيحل لي المشكلة هذه غير الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وشكاه، قال: فذهب أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكاني، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القني به)، يعني: رتب لي معه موعداً، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الروايات الأخرى في الصحيح، قال: فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، وهذه الرواية أبلغ في إظهار الأدب، ورحمة الرسول عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فالإنسان لا ينبل إلا إذا فعل ذلك، واليوم عندما نقول لأحد الدعاة المتصدرين للدعوة في سبيل الله عز وجل: لا يضرك أن تذهب إلى الناس وتدعوهم، لا تنتظر حتى يأتيك الناس فإن الزمان تغير، فقال: أنا لا أذل العلم، ويقول: قال مالك: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه نعم يا أخي! هذا كان أيام مالك، لكن نحن في زمان ضاع فيه العلم، فالمفروض أننا لا ننقل الكلام في زمان مالك إلى زماننا إذا تغير المقتضى.

إن الذين تكلموا على أهل البدع، وقالوا: لا يجوز أن تتكلم مع مبتدع ولا أن تذهب وتتلطف معه، بل اضربه بنعلك، وابصق في وجهه، لماذا؟ قال: لأن الأئمة كانوا يقولون هذا، منهم: أحمد بن حنبل، وأيوب السختياني، وعمرو بن دينار، نعم يا أخي! عندما قال أحمد بن حنبل: إذا قابلت المبتدع فابصق عليه، لأنه كان هناك ألف رجل مثل أحمد بن حنبل، والسنة ظاهرة، والدين ظاهر، والمبتدع غريب، وكانوا يستعدون السلطان على المبتدع شعبة بن الحجاج رأى رجلاً يحدث بأحاديث كاذبة، قال: لو رجعت إلى التحديث بها لاستعديت عليك السلطان، فكان يذهب إلى السلطان ويقول له: هناك رجل يحدث أحاديث منكرة عن النبي عليه الصلاة والسلام فيأخذه السلطان ويسجنه مباشرة.

فهؤلاء كانوا الدولة وكانت لهم وكانوا متظاهرين وكثرة كاثرة.

هذه الأيام الدولة لأهل البدع في كثير من الأماكن، فلو أننا تركنا نصيحتهم وتركناهم وما دعوناهم، فمن الذي سيبلغ لهم الكلمة؟ فلا ننقل الكلام الذي قاله مالك في أيام العز وأيام الجاه وأيام القوة ونستخدمه في أيام الضعف والهوان، لا.

المقتضى تغير وكلام السلف على عيوننا ورءوسنا.

سأل أحدهم شيخ الإسلام ابن تيمية: هل آية السيف نسخت آية الدعوة واللطف؟ فقال: لا.

من كان ذا ضعف فليعمل بآية العفو، ومن كان ذا قوة فليعمل بآية السيف إنما الدعوة بالحسنى، فإذا كنت مستضعفاً وفي مكان ضعيف لا تستطيع أن تستخدم السيف استخدم {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:١٠٩]، وإذا كنت ذا قوة استخدم آية السيف، والخوارج آفتهم كما قال ابن عمر: أتوا بآيات أنزلها الله في الكافرين فجعلوها في المسلمين، وهذا حاصل في هذه الأيام مثلاً: رجل قرأ حديثاً في أحد الكتب فأعجبه فقرر أن ينسخ منه ألف نسخة ويعلقه في المساجد، والحديث ضعيف، وهو ليس له علم بذلك ولا يعلم شيئاً اسمه ضعيف أو موضوع، فعندما قرأ أحدهم هذا الحديث قال: من الذي علق الحديث هذا؟ قالوا: هذا شخص أعجبه هذا الحديث، فطبعه وعلقه في المساجد فقال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦] فالرجل ليس عنده فكرة عن الموضوع أصلاً، فيقوم يأتي بهذه الآية التي نزلت في الكافرين، وإلا كان المفروض أن يذهب إلى هذا الرجل الذي علق الحديث وينصحه ويخبره أن الحديث موضوع ولا يجوز نشره بين المسلمين.

مسألة رعاية المقتضى مسألة مهمة في نقل الكلام.

سفيان الثوري الرجل العابد الزاهد الذي خشي في آخر حياته أن يختم له بالسوء، لما بكى وهو يحتضر سأله يحيى القطان: أتبكي خشية ذنوبك؟ فتناول قشة على الأرض، وقال: (والله لذنوبي أهون علي من هذه إنما أخشى سوء الخاتمة) فهؤلاء الأئمة الكبار العباد الزهاد، كانت لهم أقوال، فنحن إذا أردنا أن ننقل أقوالهم فيجب أن نراعي المقتضى الذي قيل فيه، فصاحبنا عندما يقول: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه فإنه بهذا سيضيع العلم؛ لأنه لن يأتيك أحد، فينبغي لك أن تذهب إلى هؤلاء وتعلمهم.

ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن عمرو وطرق عليه الباب، لكي ينظر في المسألة؛ لأنه وقع ظلم على امرأة مسلمة.

وفي كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله، في ترجمة الشافعي، قال يونس بن عبد الأعلى -تلميذ الإمام الشافعي -: تناظرت مع الشافعي في مسألة واختلفنا، قال: فجاءني الشافعي إلى بيتي فطرق بابي، وقال لي: (ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: ما دام أن الخلاف في المسائل الفرعية وليس في الأصول.

يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذا: ما أكمل عقل هذا الإمام رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك، فقد كانت له عادة جعلت كثيراً من الناس يتعلقون به، فقد كان يوم الخميس عنده يوم الفقراء، فكان يذهب إليهم ويجلس معهم في بيوتهم البسيطة، وكان لهذه الزيارات مفعول السحر، فقد كان يصلي وراءه أكثر من خمسين ألف مسلم، ومسجده الذي كان يصلي فيه كانت تغلق أبوابه يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً لا موضع لقدم، حتى أن أحدهم يقف على الباب يمنع أي داخل والمسجد كان حوالى خمسة أدوار، والشوارع على بعد اثنين من الكيلو مترات كانت مليئة، وكان يخطب بتسعة وخمسين مكبر صوت، فتعلق الناس به لأنه كان متواضعاً، فكان يذهب للفقراء كل يوم خميس، وكان يمر على الفقراء ويقعد مع كل واحد ربع ساعة، فهذا شرف كبير لهذا الفقير، فإنه يشعر بالعز عندما يدخل عليه أحد الواعظين المشاهير ويشعر بأن له قيمة.

كان الأعمش رحمه الله يقرب الفقراء من مجلسه، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت الأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع فقره وحاجته كان فقيراً ومحتاجاً، ومع ذلك كان الغني أذل في مجلسه، والفقير كان أقرب، يقوم الفقير وهو يشعر بالعز، ويشعر أن له قيمة في الدنيا فأنت عندما تذهب إلى الناس بنفسك فهذا خلق راقٍ جداً من أخلاق الدعاة إلى الله عز وجل، ونصر لدعوتك في نفس الوقت.