للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب الوصول إلى طريق النجاة]

إن أول سبيل وأنت تفتش عن الطريق الحق وسط هذا الكم من الطرق أن تبحث عما كان عليه الأصحاب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام عبادةً وعقيدة، كانوا أقل الناس تكلفاً، سمة التكلف غير موجودة فيهم أبداً، حتى الورع بالرغم من أنه يحمل العبد على التكلف بترك المباح، فترك المباح تكلف، فمثلاً لو افترضنا جدلاً أن رجلاً جاء يطعم عند رجل آخر فقال: هذا الدجاج أذبحته أنت بنفسك؟ قال: لا.

لكنه مذبوح في بيتي، قال: من الذي ذبحه؟ وهل من ذبحه يصلي؟ الرجل يسأل كل هذه الأسئلة بقصد ألا يأكل لحماً ذبحه رجلٌ لا يصلي، فهذا ورع أو داخلٌ في جملة الورع، لا يريد أن يطعم شيئاً فيه شبهة، ومع ذلك يلوح عليه أثر التكلف؛ لأنه مخالف لسائر الأدلة التي تبين لنا أن الأصل في ديننا اليسر، وما لم يأتك لا تتعنى البحث عنه، فتضيق على نفسك.

شخص يدخل الأسواق -ومعلوم أن كثيراً من أموال الأسواق سرقة وغصب، وأن كثيراً من المحلات قائمة على قروض ربوية من البنوك- فلو دخل رجلٌ محلاً تجارياً فسأل صاحب المحل: أتقترض من البنوك؟ أتجري المبايعات على الحل، أو تقع في المبايعات المحرمة.

كان ذلك تنطعاً، وهو يضيق على نفسه دائرة الحلال، إنما لو دخل واشترى فما على المحسنين من سبيل، ولا يقال له: لِمَ لم تسأل؟ لكن لو سأل وعرف، ثم احتاج بعد ذلك فاضطر إلى الشراء يلام، ويقال له: فتشت وتعنيت ولم يطلب منك، برغم أن التفتيش هذا داخل في دائرة الورع ولو في الجملة.

فالصحابة حتى في ورعهم لا يلوح عليهم هذا التكلف، وقلما وجدنا صحابياً يسأل مثل هذه الأسئلة، لكن ورعهم عليه نور وهالة، لأن هذا يتماشى مع فطرهم، ليس عندهم تكلف في الأصل.

فأنت في أول بحثك حتى لا تتوه اطلب سير الصحابة، واقرأ تراجمهم، وانظر كيف كانوا يركعون ويسجدون، كيف كانوا يذكرون الله عز وجل، ثم انظر في سير التابعين، وكيف تأسوا بهؤلاء الصحابة حتى تتدرج إلى العلماء المتبوعين، الأئمة الكبار كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، كل هؤلاء السادة عندما تقرأ سيرهم وتمشي على طريقهم ولو تقلدهم في بعض ما تقرأ، لا تقرأ إزجاءً للفراغ، فمثلاً روي أن الإمام أحمد رحمه الله أصيب بوجع فدخل عليه بعض أصحابه، وهو يئن من المرض، فقال الإمام أحمد له: حدثنا -وأحمد هو أحمد والذي يحدثه لا يبلغ في علمه نصف أحمد - فقال: حدثنا فلان عن فلان، عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض، قال: فما أنَّ أحمد بعدها، فـ طاوس تابعي وأي حجة في كلام التابعي أو في فعل التابعي إنما الحجة في كلام الله ورسوله، والتأسي يكون بالصحابة، لكن الإمام أحمد بن حنبل لا يجهل قدر طاوس، وكانوا إذا رأوا كلمة الحكمة تخرج من أي فمٍ وصادفت عندهم موضعاً يتبعونها، ولما سئل بعد ذلك عن أنين المريض قال: أكرهه؛ لأن طاوس كان يكرهه، فالإنسان يتأسى بمن سبقه من أهل العلم.

ذكر الإمام أحمد ما وقع له في المحنة فقال: وجلدت في يوم الإثنين وكنت صائماً ثلاثمائة جلدة حتى أغمي عليَّ عدة مرات -أي كان يفيق ويضرب ويغمى عليه- قال: فجاءني رجل لا أعرفه، وقال: يا أحمد! اصبر، قال: فكلما جلدت ذكرت الرجل وكلمته وتجلدت.

فمن هذا الرجل؟ وما قيمته؟ لا نعرف له رسماً ولا اسماً ومع ذلك صار إماماً لـ أحمد، قال: يا أحمد: اصبر، والأمر بالصبر، جاء في آيات وأحاديث كثيرة، لكن كان يتأسى.

فأول ما ينظر الإنسان إلى هدي الصحابة، وكيف كانوا يوجهون التابعين، يحاول أن ينفذ ولو جزءاً مما قرأ، فحين يسمع هذا الكلام يقول: أنا سأكون مثل الإمام أحمد، إذا مرضت فلن أئن، فهو في هذه الحال قد تأسى.

ومن المرضى من يعد مريضاً متعباً، ومنهم من يعد مريضاً مريحاً، فالمريض المتعب، أول ما تدخل عليه يجأر بالشكوى، وقد أتي له بالأطباء، وبذل معه كل ما يستطيعه البشر، ومع ذلك فهو يئن، فلا يستطيع القائم عليه أن ينام هو الآخر، بسبب هذا المريض الذي يكثر من الشكوى، وهناك مريض مريح، إذا دخلت عليه قال: الحمد لله لا تشغل نفسك بي، ويقول هذا الكلام وهو يتوجع، فتصور لو أن هذا المريض ترك الأنين لأراح من حوله ولتمكنوا من الاشتغال بأعمالهم دون إشغال فكرهم بحال مريضهم.

فالإنسان إذا قرأ مثل هذا وتأسى يكون له في ذلك منافع، لكن أيضاً لابد من النظر فيمن يتأسى، فلا يتأسى إلا بمثل طاوس بن كيسان رحمه الله، فضلاً عن الصحابة الكبار، ومنهم الصحابي الكبير جرير بن عبد الله البجلي، حين أرسل غلامه إلى السوق ليشتري فرساً وكان الغلام ذكياً وحاذقاً (والتجارة شطارة) واستطاع أن يشتري فرساً من رجل بثلاثمائة درهم وكانت فرساً قوية، وجاء جذلان فرحان، وجاء معه صاحب الفرس إلى جرير لينقده الثمن، فـ جرير بن عبد الله نظر إلى الفرس وقال: بكم اشتريت هذا؟ قال: بثلاثمائة درهم، قال: يا صاحب الفرس إن فرسك تساوي أربعمائة، قال له الرجل: بعتك: قال: تساوي خمسمائة، ستمائة إلى أن وصل إلى ثمانمائة، وفي كل ذلك يقول الرجل: بعتك، فارتفع السعر من ثلاثمائة درهم إلى ثمانمائة درهم، يعني: بلغ الفرق خمسمائة درهم، وهو ما يساوي قيمة فرسين، وجرير بن عبد الله هو الذي سيدفع، فلما أعطاه الثمانمائة درهم وخرج الرجل -صاحب الفرس- بقي الغلام مذهولاً، قال لـ جرير: ما هذا الذي صنعت، قال: (إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)، هذا هو النصح، فرسه تساوي ثمانمائة، لماذا تنقص في السعر؟ فانظر إلى حفظ العهد، ولذلك سادوا.

أنت تنقص سعر السلعة وتكسب خمسمائة درهم وتذهب تصرفها عند الطبيب، آه لو قدرها العبد تقديراً صحيحاً، لأدرك أنه يخسر بهذه الطريقة، والدراهم التي يخسرها في المبايعات كلها بسبب الذنوب لو يدري، لو كان عاقلاً لدفع المال صدقة اتقاء المعصية وشؤمها، وهو الرابح على أية حال، لكنه قصير النظر، لا يدري ما تحت شراك نعله، لذلك خسارته متوالية وهو لا يدري، والعجيب أنه يخطئ في نفس الموضع أكثر من مرة ولا ينتبه؛ كأنه أعمى لا يرى، إنما الهدى هدى الله، لذلك قال جرير: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح) ولو دفعت خمسمائة درهم زيادة خير لك من أن تخسر ذمة الله ورسوله بثمنٍ بخس، فلا تنقض عهد المبايعة بخمسمائة درهم، بل أوف بالعهد، وأعط الخمسمائة درهم وأنت الرابح، هكذا كان التزام السلف، إذا سمعوا الأمر لم يتجاوزوه ولو كان مُراً.

أبو قتادة رضي الله عنه جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه يقول: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه) قال: فما مسست ذكري بيميني قط، وصحابي شهد بيعة الرضوان، قال: (والله ما مسست ذكري بيمني مذ بايعت) حتى تظل هذه اليد آخر عهدها بيعة الرضوان، وقد يشق عليه الأمر، وقد يكون في موضع يحتاج أن يمس ذكره بيمينه في الاستنجاء، ومع ذلك لا يفعل، وما ذاك إلا لحفظ العهد، وكل النصوص في القرآن والسنة عبارة عن عهود ومواثيق متروكة لك، فلا تخسر ذمة الله ورسوله، وعظِّم الأمر أن تتركه، وعظِّم النهي أن تأتيه؛ يكون أسلم لك، فهذه هي بداية الطريق، وشياطين الإنس والجن على جنباته يتقاذفونك حتى لا تضع قدميك على هذا الطريق.