للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من صفات عباد الرحمن ابتعادهم عن شهادة الزور]

ثم بين الله صفات هؤلاء الصالحين الأتقياء عباد الرحمن فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢] هذا حالهم.

الشهادة هنا بمعنى الحضور، فتقول: شهد فلانٌ الشيءَ، أي: حضر فلان الشيءَ.

وتقول: شهد فلانٌ على الشيءِ، أي: أقام عليه إقراراً.

فالشهادة هنا بمعنى الحضور.

فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢] أي: لا يحضرون مجالس اللهو، ولا مجالس الشرك، ولا مجالس العبث، ولا مجالس المجون، فهذا ليس من دأبهم، ليس من ديدنهم، ليس من شأنهم.

هذا شأن سَقَطَة الناس وسَفَلَة الناس، هذا شأن الغافلين من الناس.

أما أولو الألباب فكما رُوِي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام، وهو طفل صغير صبي يأتيه أصحابه فيقولون: (يا يحيى! هلم نلعب يا يحيى! فيقول: ما للعب خُلِقنا، ما للعب خُلِقنا).

وهذا من تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً} [مريم:١٢].

فأولو الألباب وعباد الرحمن لا يحضرون هذه المجالس المدنسة؛ مجالس اللهو والمجون، مجالس الغزل، مجالس العشق والحب الخليع، الذي يفعله أهل الوقاحة وأهل السفور وأهل التمرد وأهل العصيان.

هم لا يحضرون مثل هذه المجالس بحال من الأحوال، ولا يحضرون مجالس الشرك كذلك.

وكذلك هم لا يشهدون الزور بالمعنى المعهود للشهادات، فإذا دُعُوا إلى شهادة كانوا قوامين لله شهداء بالقسط، لا يشهدون الزور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت!).

فهم إذا رءوا شيئاً شهدوا كما رءوا ليست شهادتهم للمشهود له، إنما شهادتهم لله، فإن الله أمر بإقامة الشهادة له، قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:٢]، فثَمَّ شخصٌ يرى مجرماً يظلم شخصاً، فحينئذٍ يذهب ويقول كلمة الحق، فيرهِّبه الظالم ويخوفه ويهدده بإحراق بيته، أو بإحراق سيارته، أو بمكيدةٍ يدبرها له، فتخشى على الشاهد أمُّه، فتقول له: يا ولدي! ما لك وللناس، دعنا وشأننا ودعهم وشأنهم، يحاسبهم ربهم.

هكذا تقول الأم الجاهلة التي جَبُنَتْ وتقاعست عن الحق، وتلقن ابنها الجُبن، فقلبها آثم.

أما الأم التقية الورعة فتقول لولدها: يا بني! توكل على الله، وقل قول الحق لله سبحانه.

فهنيئاً لك إذا جئت أمام الله وأنت مقتول، وليس لك ذنب إلا أنك قلت كلمة الحق ابتغاء وجه ربك سبحانه وتعالى.

علم هؤلاء الأفاضل من عباد الرحمن أن الشهادة لله ينبغي أن تقام لله، يجب أن تقام لله لا لأحد سواه، علموا قول الله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨١ - ١٨٢].

علموا قول نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وُلُّوا).

فكذلك علموا قول الله تعالى في كاتم الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:٢٨٣] أي: فاجر قلبه.

فلذلك قالوا كلمة الحق، قالوها ولم يخشوا في الله لومة لائم، علموا أن الله قادر على أن يستبدلهم بقوم آخرين.