للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[النجاة]

الصدق نجاة وإن ظننت أنه هلكة، ولا تخفى قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما رجع الرسول سالماً غانماً آمناً من غزوته جلس في المسجد بعد أن صلى فيه ركعتين -وهذه سنته إذا رجع من الأسفار-، ثم جلس في المسجد فجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم، وجاء المعذرون يلتمسون المعاذير الكاذبة المنتحلة، فما جاءوا يستغفرون بل جاءوا يختلقون الأكاذيب أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يعفو عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى يقبل معذرتهم، فكلٌ التمس سبباً.

وانظر كيف جاء أهل الصدق وأهل الإيمان، فقد جاء كعب بن مالك، فلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلفك يا كعب عن الغزوة؟ -وهو الرجل الصادق رضي الله عنه- قال: والله -يا رسول الله- لم يكن لي عذر في التخلف عنك، ووالله -يا رسول الله- لو جلست بين يدي أي رجل من أهل الدنيا لاستطعت أن أخرج منه بمخرج، ولكني أخشى إن كذبت عليك أن ينزل الله فيَّ قرآناً يفضحني الله به -أو كما قال كعب - فاقض فيَّ يا رسول الله.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في شأن كعب -وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أعذار المنافقين-: أما هذا فقد صدق، فامكث حتى يقضي الله فيك).

وهُجر كعب بن مالك خمسين ليلة لا يكلمه أحد من أهل الإسلام، ولا يردون عليه السلام، ولا يبايعونه، ولا يشترون منه، إلى أن جاء أمر أكبر، حيث أمره النبي أن يترك زوجته، حتى اشتد به البلاء، واشتد به الكرب، وكما هو موجود في كل عصر، فإنك إذا صدقت يأتيك شيطان من شياطين الإنس يقول لك: لماذا تصدق؟ كنت ستتكلم بأي كلمة وتخرج من المأزق، وشياطين الإنس لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، وضعاف الإيمان لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، فجاءه بعض أقاربه وقالوا: يا كعب! ما منعك أن تكون ذهبت إلى رسول الله فقلت له: خلفني كذا وكذا! وبعد ذلك سيستغفر لك الرسول كما استغفر لفلان وفلان من المنافقين، قال كعب: فمن شدة مقالتهم عليَّ هممت أن أذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأكذب نفسي، وأقول له: يا رسول الله كان لي عذر وأختلق الأكاذيب، قال كعب بن مالك: ولكني سألت -وهنا تنفع مجالسة الصالحين والتأسي بهم- هل هناك أحد من الناس قال مثل مقالتي؟ قالوا: نعم.

قال مثل مقالتك هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال: فذكروا لي رجلين صالحين لي فيهما أسوة أتأسى بهما، فهما قد شهدا بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: وهل لقيا مثل ما لقيت؟ قالوا: نعم، لقيا مثل ما لقيت من رسول الله، يهجرهم الناس وأزواجهم كذلك، إلا أن امرأة هلال استأذنت رسول الله فقالت: (يا رسول الله: إن هلالاً شيخ كبير ضائع لا يستطيع أن يخدم نفسه، فهل عليَّ جناح أن أخدمه؟ قال: لا.

ولكن لا يقربكِ قالت: والله -يا رسول الله- ما له في النساء من حاجة، والله -يا رسول الله- منذ أن قلت له ما قلت ما زال يبكي).

فانتبه كعب بن مالك إلى أن له أسوة، وصبر حتى أنزل الله عز وجل التوبة عليه، قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٨] أي: تاب الله على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، قال كعب بن مالك: والله لقد نفعني الله بالصدق، فإن الله تاب عليَّ.

أما أهل النفاق فقال الله فيهم شر مقالة، ووصفهم شر وصف، قال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٩٥ - ٩٦] فهكذا وصفهم الله، ومعنى: (إنهم رجس) أي: نجس.

فانظر إلى عاقبة الصدق، وقد ذهب كعب إلى رسول الله وقال: إن من توبتي يا رسول الله أن انخلع عن كل مالي صدقة لله وصدقة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، هكذا علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام.