للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراقبة الله في الأقوال]

وابتداء ينبغي أن يعلم العبد أن ألفاظه وكلماته مسجلة عليه، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨]، ويقول سبحانه: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:٨٠]، ويقول سبحانه: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩]، ويقوله سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦]، فأفادت هذه النصوص كما أفاد غيرها كذلك: أن كلمات العبد تسجل عليه، وقال فريق كبير من أهل العلم: حتى المزاح، وحتى اللهو، وحتى قول الرجل لجاريته: ناوليني الطعام، أو هذا الطعام ناقص الملح، أو زائد السكر، فكل ذلك يسجل على العبد، فإذا كانت الكلمات تسجل على العبد، فجدير بالعبد أن يقلل الكلمات قدر الاستطاعة، وعلى هذا حثنا ربنا سبحانه في كتابه، قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الإيمان: {والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:٣]، وقال سبحانه كذلك في شأنهم: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:٧٢]، وقال سبحانه كذلك: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:٥٥]، وكذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وتقدم مراراً قول الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا استوى عندك الوجهان في الكلام، ولم تدر هل في الكلام خير أو ليس فيه خير، لزمك الإمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من صمت نجا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (إن الله كره لكم قيل وقال)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (وإن من أبغضكم إليّ الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)، قال الترمذي رحمه الله تعالى: والثرثار: هو كثير الكلام، ولذلك كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم كلاماً لو عدّه العادُّ لأحصاه)، وقالت: (لم يكن صلوات الله وتسليماته عليه يسرد الحديث كسردكم، إنما يتكلم كلمات لو عده العادُّ لأحصاه).

هكذا تصف أم المؤمنين عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكثرة الكلام منافية للهيبة، ومذهبة للوقار، ومذهبة للبهاء، وموقعة في الزلل، وموقعة في الخطأ، ومدعاة لكثرة الحساب ولطول الحساب يوم القيامة، ثم هي أيضاً تجعل الناس يملُّون حديثك، ولذلك لما كان عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يتخوّل أصحابه بالموعظة كل خميس، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! لو حدثتنا كل يوم، قال: (إني أكره أن أملّكم، وإنما أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة؛ كراهية السآمة علينا).

أي: كراهية أن يتسرب إلينا الملل.

ويتأكد الإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فامتنع عنه بالكلية، ولذلك قال هؤلاء الفتية النجباء العقلاء الأذكياء أصحاب الكهف -لما استيقظوا من منامهم-: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩] أي: قال بعضهم: لبثنا يوماً، وقال آخر: لبثنا نصف يوم، أو ثلث يوم، فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:١٩] وانقطع حينئذ الجدال، واتجهوا حينئذٍ إلى العمل، فقالوا: {َابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:١٩]، وفي نفس السورة قال الله سبحانه وتعالى موضحاً هذا الأدب من وجه آخر: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢]، ولما أقبلت مريم عليها السلام تحمل وليدها بين يديها، وعلمت يقيناً أن قومها لن يصدقوها إذا قالت لهم: أتاني الملك فنفخ فيّ من روحه، فلم يصدقها القوم حينئذ، ولذلك أمرت بالسكوت وأمرت بالصمت؛ إذ ليس للكلام فائدة قال الله لها: ((َإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا)) أي: صمتاً {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:٢٦]، وكذلك عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته في حديث الإفك: (إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله فإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له، قالت: والله! قد رميتموني بأمر الله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني لبريئة لم تصدقوني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨]).