للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الزوجة أعظم جليس]

إن خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ذهب إلى تركته بنفسه يتفقد أحوالها، ويتفقد أحوال إسماعيل عليه السلام، فوجد امرأة غير حامدة لله سبحانه، ولا شاكرة لنعمائه، فأوصى ولده أن يغيّر عتبة بابه وأن يطلقها، وذلك لأن للمرأة تأثير في زوجها، ومن ثم جاءت بعض وجوه التأويل في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤]، وكذلك جاء قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران:١٤]، وجاءت أقوال بعض المفسرين في تفسير فتنة النساء المذكورة في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وهي أن فتنة النساء ليست كامنة في الإعجاب بهن والوقوع في الفاحشة معهن فقط، ولكن ثم أوجه أخر للإفتتان عظيمة قد يفتن الشخص بزوجته بسببها، أو تفتن المرأة بزوجها بسببها.

وهذا يجرنا إلى تناول آيات الأحزاب بشيء من الشرح والتفسير والتأويل، يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٢٨ - ٢٩]، فهذه الآيات لها سبب نزول، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم -وهن خير النساء- سألنه النفقة، واستقللن العطاء الذي يأخذنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبن مزيداً من النفقة من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وورد أن بعضهن قلن: لو كنا عند رجل آخر لكسينا الحرير، وللبسنا الذهب الوفير إلى غير ذلك، فحزن النبي من ذلك حزناً شديداً عليه الصلاة والسلام، وفي بعض الروايات أنه اعتزلهن شهراً صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداه واجماً حزيناً ساكتاً عليه الصلاة والسلام ونساؤه حوله، فأراد عمر أن يدخل السرور على رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (لو رأيتني -يا رسول الله- وقد سألت بنت خارجة -يعني زوجته- النفقة، فقمت إليها يا رسول الله فوجأت عنقها -أي: ضربتها في عنقها وطعنتها في عنقها- فقال أبو بكر مثل ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هن حولي فيما ترى يسألنني النفقة)، فقام أبو بكر إلى عائشة ليطعنها في عنقها، وقال لها: تسألين النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! وقال عمر لـ حفصة مثل ذلك، وقام أبو بكر وعمر ليضرب كل منهما ابنته، فمنعهما النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت آية التخيير: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:٢٨]، وذلك أن المرأة قد تطلب من زوجها شيئاً فوق طاقته فيضطر الشخص -وهذا ليس في حق رسولنا محمد فهو معصوم عليه الصلاة والسلام، ولكن الآيات تنزل عليه وهي عامة- فيضطر أن يمد يده إلى الحرام لإشباع رغبة زوجته، فنزلت آية التخيير، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ عائشة فقال لها: (يا عائشة إني عارض عليك امراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأذني أبويك)، ثم تلا عليها آية التحريم فقالت: يا رسول الله: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ولكن -يا رسول الله- لا تخبر أحداً من نسائك أني اخترت الله ورسوله والدار الآخرة فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً، لا تسألني امرأة منهن عن اختيارك إلا أخبرتها بالذي اخترتيه)، ثم مر النبي على سائر نسائه فاخترن مثل ما اختارت عائشة رضي الله تعالى عنها.

فالإبقاء أحياناً على امرأة دينها ضعيف ورخيص قد يجعل زوجها معها في عذاب الله سبحانه وتعالى، فيدخلهما في ارتكاب المحاذير وارتكاب المحرمات، فحينئذ لا يجالس رجل امرأة أصرت على هذا الحال من الحياة الذي لا يبالي معه بأكل المال من الحلال وأكله من الحرام.

فنزلت آية التخيير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن أزواجه رضي الله عنهن كن محسنات فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمات: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:٢٩ - ٣٠]، فلمنزلتهن وشرفهن عظمت الذنوب في حقهن، وقوله تعالى: (بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ): قال بعض العلماء: منها سوء الخلق والنشوز.

فكل ما علت مرتبة الشخص عظمت منه الذنوب، واستقبحت منه أشد من غيره.

قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:٣١]، والقنوت هنا: الطاعة.

قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:٣٢] (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) أي: في المنزلة والشرف لا يضاهيكن أحد من النساء، وإذا كان هذا قيل لنساء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن وهن قد سألن النبي النفقة واستكثرنه النفقة فلأن يصدر ذلك من بعض نساء زماننا فهو وارد.

والله أعلم.