للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراعاة الأحوال]

منها: مراعاة أحوال الإخوة: فإذا ما وجدت أخي غضبان أتقي ثورته وغضبه، وإذا غضبت أنا الآخر فلا أصدر قراراً في شأن إخواني.

وهذه جزئية هامة لها أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فإذا غضبت لا تصدر قراراً أثناء الغضب فإن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وقد أرشد الرسول عليه الصلاة والسلام كما روي عنه من طريق عروة السعدي وإن كان الحديث فيه نوع كلام لكن لمعناه شواهد، (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).

وفي صحيح البخاري من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يستبان، أما أحدهما فقد علا صوته واحمر وجه وأنفه وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أعلم كلمة لو قالها هذا الرجل لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه الذي يجد).

إذاً: الشيطان يحضر عند الغضب ويحملك على أن تصدر قرارات طائشة في وقت الغضب، ومن ثم قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) وذلك لأن الغضب نوع من أنوع الإغلاق التي يغلق على العقل وتجعل الشخص يتصرف في غير ما يريد، ويصدر قرارات لا يصدرها وقت تأنيه وتصبره.

فلذلك إذا أردت أن تصدر قراراً فلا تصدره وأنت متعب مرهق أو وأنت غضبان، وتحضرنا في هذا واقعة رواها البخاري في صحيحه وهي واقعة قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما (قتل الثلاثة رضي الله عنهم في مؤتة فوصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عليه الصلاة والسلام حزيناً يعرف في وجهه الحزن -وفي بعض الروايات-: وعيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل وأم المؤمنين عائشة بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليهن فانههن عن البكاء.

فذهب ورجع وقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين وقد نهيتهن فلم ينتهين، قال: ارجع فانههن عن البكاء.

فذهب ورجع وقال: يا رسول الله قد نهيتهن فلم ينتهين -ثلاث مرات-.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فاحثو في وجوههن التراب.

فحينئذٍ قامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: والله ما أنت بفاعل، ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء حتى قال لك الذي قال) رأت أم المؤمنين وهي الفقيهة العالمة رضي الله عنها أن القرار صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلحاح الرجل عليه، حتى أرهق رسول الله فصدر منه هذا الكلام.

والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مقالة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فما عاتبها ولا زجرها عليه الصلاة والسلام، ولا تعقبها، فدل فعله وإقراره لها على صدق ما قالته، ولو كان ما قالته أم المؤمنين خطأ لتعقبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو لا يسكت على الخطأ ولا يقره، فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فلماذا قال مقالته الأولى: (اذهب فاحث في وجوههن التراب)؟ فالإجابة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل أموراً تعليماً لأمته صلى الله عليه وسلم، كما صنع في قصة عمر مع أبي هريرة حيث قال عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (يا أبا هريرة اخرج فبشر من قال لا إله إلا الله بالجنة.

فخرج أبو هريرة يقول: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فكان أول من التقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسمع مقالة أبي هريرة ونقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.

فضرب أبا هريرة ضربة أسقطته على الأرض على استه وقال: والله لا تحدث بهذا الحديث أحداً، فانطلق أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه عمر، ودخل عمر على إثر أبي هريرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إذاً يتكلوا.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عمر على مقالته) فهذا كان من باب التعليم.

والمراد: أنك لا تضغط على شخص حتى يعطيك وعداً من الوعود ويخلف هذا الميعاد، ولا تضغط على شخص حتى يعدك وعداً فلا يفي لك بها، وإلا فأنت المتسبب في عدم الوفاء، بإرهاقك لأخيك المسلم.

فيجدر بالشخص ألا يصدر قراراً في وقت غضب أو تعب، ويجدر بالمسلم كذلك ألا يكره ويحمل أخاه على أن يصدر قراراً في وقت تعبه وإرهاقه ولا يستطيع أن يفي له به، ولا يكثر من الإلحاح على إخوانه يحرجهم ويؤثمهم.

وكذلك إذا كنت في سفر واعتراك التعب والإرهاق وخالطك الهمج والرعاع فلا تصدر قراراً في مثل هذا الوقت؛ لأنه يأتي على غير وجه صحيح.

وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع المسلمين في موسم الحج فسمع قائلاً يقول: لو مات عمر لفعلنا كذا وكذا.

ولأمّرنا فلاناً وفلانا فوالله ما كانت إمره أبي بكر إلا فلتة أو خلسة، على غرة منا، فلما سمع عمر هذه المقالة آذته وآلمته جداً، فقام في الناس يقول قولاً ويلقي خطبة في الناس، فجاءه بعض كبار الصحابة فقالوا: قبل أن يخطب خطبته: يا أمير المؤمنين إنك في موسم الحج، والموسم يجمع العقلاء والرعاع، منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم، ومنهم من يعقل ومنهم من لا يعقل، فنخشى يا أمير المؤمنين إن تكلمت بكلامك في مثل هذا الموقف فهم عنك على غير وجهه، وحمله العالم والجاهل، والقاصي والداني، وأهل الحضر وأهل البادية، ومن في قلبه خير ومن في قلبه غل، فيحرفون كلامك، ولكن يا أمير المؤمنين تريث، لا تتكلم في مثل هذا الموطن، ولكن ارجع إلى المدينة فإن بها أهل العلم وأهل الفقه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فحدثهم حينئذٍ بما تريد ويفهمون عنك الذي تريد، فرأى أمير المؤمنين عمر أن الكلام له وجاهة، فأجل الحديث إلى أن رجع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى لا يفهم كلامه على غير وجهه رضي الله تعالى عنه، فجدير بالمسلم أن ينظر إلى المواطن والمواقف والأشخاص.