للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم]

خامساً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم: فيسن أن تغرس الثقة في نفوس الأطفال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا المسلك وسلكه من بعده أصحابه رضوان الله عليهم.

فعليك أن تكتشف وتختبر مدى فهم هؤلاء الأطفال الذين أمامك، وهل يفهمون أو لا يفهمون، وبعد ذلك ترتب على هذا التعامل مهم.

وقد ورد في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما لطم الجارية وجاء آسفاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أغضب كما يغضب البشر، فكانت لي جارية ترعى غنماً لي، فعدت الذئب على شاة فأخذتها فلطمتها -أي: لطم الجارية على وجهها- فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) فأخذ بعض أهل العلم من هذا: جواز الاختبار لاستكشاف ما عند الشخص، ثم ترتيب العمل بناءً على هذا الذي يصدر منه بعد الاستكشاف.

وينبغي أن يكرم الولد النبيه ويشجع حتى يستمر في نباهته وإقباله على الخير، فـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً ولكنه كان نبيهاً ذكياً، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين.

قال عبد الله بن عباس: دخل النبي صلى الله عليه الخلاء فأتيته بماء كي يتوضأ به، فوضعته أمام الخلاء، فخرج فقال: من وضع هذا؟ فقالوا: عبد الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم لفهمه.

وفي هذا: جواز خدمة الصغير للكبير، فـ عبد الله بن عباس وضع الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنس كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في أول الإسلام قال أنس: (كنت ساقي القوم يوم نزل تحريم الخمر، وكان شرابهم النبيذ وكنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب فلما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:٩٠] قال أبو طلحة: يا أنس! قم إلى هذه الدلال فاكسرها، أو فاهرقها).

الشاهد: أنه يسن أو يشرع أن يقوم الصغار بخدمة الكبار، ويتمرنون على ذلك، بل ويتمرنون أيضاً على البيع والشراء، ونحو ذلك.

وقد ورد في ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أسماء بنت عميس كما سبق، فرأى عبد الله بن جعفر وكان صغيراً، فقال: (اللهم بارك لـ عبد الله في صفقة يمينه) فكان عبد الله تاجراً مع أنه كان صغيراً، وكان يربح أرباحاً طائلة رضي الله عنه ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فالشاهد: أن الأطفال يستكشفون، ومن وجد منهم فيه نباهة حُمّل من التعليم ما يوازي نباهته وفهمه، ويكرم ويشجع على هذه النباهة، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر يدخل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما مع كبار السن من الصحابة، ويجلسه معهم في المجالس، وفيهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان علي بن أبي طالب وكان لا يتجاوز عمره العشرين سنة وهو يجلس مع هؤلاء الكبار من أهل الشورى، فقال بعض الصحابة لـ عمر: ما لك تدخل هذا الصبي وتجلسه معنا ولنا أبناء أكبر منه سناً؟ فقال: إنه من حيث علمتم - أي: أنه ابن عم رسول الله وقد دعا له بالفقه في الدين- ثم استدعاه يوماً فقال له أمامهم: يا ابن عباس! ما تقول في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:١ - ٢]؟ فأما الصحابة ففسروها بالظاهر وقالوا: إذا جاء نصر الله ورأينا الناس يسلمون نحمد الله ونستغفره.

فقال عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس! في هذه الآية؟ قال: أما أنا فلا أقول مثل مقالتهم يا أمير المؤمنين، قال: إذاً فما تقول؟ قال: أقول: إن الله نعى إلى النبي أجله في هذه الآية، قال عمر: وأنا كذلك لا أعلم منها إلا الذي تعلم.

وكان الأمر كذلك فقد مات الرسول بعد نزول هذه السورة بفترة وجيزة، وهي آخر سورة كاملة نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فـ ابن عباس قاس الأمور، وعلم أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ لأنك إذا نظرت ترى أن المجالس تختم بالاستغفار: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، والصلوات تختم بالاستغفار: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

ونوح لما انتهى من رسالته ختم الرسالة بقوله بعد أن أغرق الله قومه وأهلكهم: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:٢٨]، فيطرد أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ فلذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله.

فكان عمر يكرم عبد الله بن عباس.

وهكذا فكل من وجدت فيه نباهة ينبغي أن يكرم ويشجع حتى يواصل العطاء، فرب كلمة طيبة يتحول بسببها شخص من الفساد أو الكسل إلى الصلاح والنشاط.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.