للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عبرة وعظة من قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً)

موضوعنا في ليلتنا هذه إن شاء الله تعالى، كلمات حول آية من الآيات لعلنا والزوج ننتفع بها، وأنتم تعرفون أن كتاب الله كتاب مبارك كله خير، شهد الله له بذلك، فقال تعالى عن كتابه الكريم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:٢٩]، وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:٥٠] فكتاب الله كتاب مبارك، كل كلمة منه فيها نفع، يقتبس منها هدي، ويُتأدب منها بأدب، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقال ربنا: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:٧٩] فتعلُمنا آية يرفعنا الله بها درجة، فضلاً عن الاستفادة في الآداب والأخلاق وغير ذلك.

والآية التي تناسب المقام والزوج هي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:٣].

قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:٣] ما السر الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه؟ ابتداءً: للآية ولما قبلها من الآيات سببان من أسباب النزول كلاهما صحيح، وكما يقول علماؤنا يرحمهم الله: (قد تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة)، فيحصل أمر، ثم يحصل أمر آخر، ثم يحصل أمر ثالث، فتنزل الآية في كل الأسباب التي حدثت، فيأتي صحابي جليل يقول: الآية نزلت في كذا، ويأتي الآخر يقول: الآية نزلت في كذا، وقد نزلت الآية فيهما جميعاً، فأحياناً تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة.

فهذه الآية والآيات التي سبقتها تعددت لها أسباب النزول وهي صحيحة، فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، فكان يدخل عند أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، فيطيل المكث عندها فتسقيه عسلاً، فغارت عائشة وحفصة رضي الله عنهما، فتواطأتا فيما بينهم، وقالت واحدة منهما للأخرى: أيتُنا دخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم فلتقل له: ما هذه الريح التي أجدها منك يا رسول الله؟ هل أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب دائماً أن يكون طيب الرائحة، وكان يحث على ذلك ويحذر من رديء الرائحة وخبيثها، وكان يقول: (من عُرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل)، وكان يقول للذي أكل ثوماً أو بصلاً: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) فكان الرسول طيب الرائحة، يقول أنس: (ما شممت ريحاً قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند زينب وقد شرب عسلاً، فلما دنا من عائشة واقترب منها قالت: ما هذه الريح التي أجدها منك يا رسول الله؟ أأكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير يا رسول الله؟ فشق ذلك على رسول الله وقال: (لا، ولكني شربت عسلاً) فقالت عائشة رضي الله عنها: جرست نحله العرفط، يعني: أنت شربت عسلاً، والنحل الذي أخرج هذا العسل كان يرعى في شجر ليس بطيب الرائحة وهو شجر العرفط، فأخرج عسلاً ليس بطيب الرائحة فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم ذهب إلى حفصة رضي الله عنها، فلما اقترب من حفصة قالت: يا رسول الله! ما هذه الريح التي أجدها منك؟ هل أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: (لا، ولكني شربت عسلاً ولن أعود، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً) فنزلت الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:٢].

الآيات.

وهناك سبب نزول آخر: كما لا يخفى عليكم أن الرجل إذا كان متزوجاً باثنتين لزمه أن يقسم لكل واحدة منهما يوماً وليلة، ولكن إذا كانت عنده أمة من الإماء فلا يجب عليه أن يقسم لها، إنما يأتيها في الوقت المتيسر له من ليل أو نهار، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، وكانت عنده جارية يقال لها: مارية، فكان يقسم للتسع ولا يقسم لـ مارية؛ لأنها أمة من الإماء.

فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية ليلة، فعلمت بذلك حفصة، فقالت: أفي نوبتي وعلى فراشي؟ قال: (لن أعود ولا تخبري بذلك أحداً وقد حلفت)؛ فنزلت {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:١] فهذان سببان من أسباب النزول.

ويستفاد مما سبق: أن النساء ذوات حيل، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكُن لأنتنُ صواحب يوسف)، فالنساء ذوات حيل قد تكون في الخير أو تكون في غيره.

وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها جاءها رجل من الفقراء ذات يوم فقال لها: يا أم عبد الله! إني أريد أن أبيع في ظل داركِ، قالت: إن الزبير رجلٌ غيور، وإذا جئت تبيع في ظل داري غار الزبير، فانتظر حتى يأتي الزبير فاسأله واستأذنه، فلما جاء الزبير جاء الرجل الفقير يقول: يا أم عبد الله! إني أريد أن أبيع في ظل داركِ فهل تأذنين لي؟ قالت: الدور كثيرة أما وجدت غير ظل داري فابتعد الرجل، فقال الزبير وقد أخذته الشفقة بالرجل: كيف تمنعين رجلاً فقيراً من البيع في ظل داركِ؟ قالت: تأذن له أنت؟ قال: آذن، قالت: من أجلك أذنت له أن يبيع في ظل داري.

إذاً: قد تكون الحيلة في الخير وقد تكون الحيلة في غير ذلك.

الشاهد: أن النبي أسر إلى بعض أزواجه حديثاً، قيل إنها حفصة، والسر هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تخبري بذلك أحداً) فالذي أسر بالسر هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأسره لفاضلة من الفضليات وأم من أمهات المؤمنين، وأكد عليها بقوله: (فلا تخبري بذلك أحداً) فأفشت زوجة رسول الله سر رسول الله، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإخبار، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجته أفشت السر، ونزل عليه قول ربه تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:٣].