للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مسائل في راتبة الفجر]

المسألة الأولى: أفضل هذه الرواتب وآكدها راتبة الفجر، وهي التي تسمى بالرغيبة، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أنه يصليها ويخفف فيها صلوات الله وسلامه عليه، حتى كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (لا أدري أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ).

وقال بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث: إنه لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والصحيح أنه يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ)، وقولها: (لا أدري) لا يعتبر نافياً للأصل، ولذلك يبقى على الأصل، ويحمل قولها: (لا أدري) على التجوّز؛ فإن قول عائشة لا يقوى على معارضة النص بالإلزام بالفاتحة.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم الليل فإذا بلغ السحر أوتر، ثم يترك السحر للاستغفار والراحة عليه الصلاة والسلام، فإن كانت له حاجةٌ إلى أهله فعل، وإن كانوا مستيقظين حدّثهم صلوات الله وسلامه عليه حتى يؤذن المؤذن بالصبح، ثم يصلي ركعتين وهما رغيبة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن صلوات ربي وسلامه عليه، قال العلماء: إنما اضطجع على شقه الأيمن لأجل أن يرتاح من قيام الليل وعناء الليل.

فقد كان يقوم حتى تفطرت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يضطجع هذه الضجعة على شقه الأيمن، ولا ينام فيها، وإنما هي ضجعة، ولذلك سنّ فعل هذه الضجعة لمن قام آخر الليل، أما من كان نائماً ثم أذن عليه الصبح فإنه لا يعتبر فيه المعنى الذي كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثبت عنه أنه قرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص، وقرأ فيهما آيتين: أولاهما من البقرة وهي قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:١٣٦]، والثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.

} [آل عمران:٦٤]، فهذا بالنسبة لهديه عليه الصلاة والسلام في القراءة فيها، وكان يخفف فيهما عليه الصلاة والسلام، ويتجوّز فيهما، ولكن مع إتمام الأركان من الركوع والسجود.

المسألة الثانية: السنة في هذه الرغيبة أن تقع بين الأذان والإقامة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز فعلها بعد الإقامة، ووردت في فعلها بعد الإقامة بعض الأحاديث الضعيفة، ولا تصلح للاستمساك بها في معارضة النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وهذا النص ورد في صلاة الفجر، ولذلك لما رأى رجلاً يتنفل بركعتين بعد الإقامة، قال: (يا هذا! بأي الصلاتين اقتديت: أبصلاتك معنا، أم بصلاتك وحدك؟!)، وفي الحديث الآخر عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، فلا وجه لإنشاء هاتين الركعتين بعد الإقامة، أما لو أقيمت الصلاة وأنت في الرغيبة فأنت على حالتين: فإن كنت قريباً من السلام، أو تستطيع أن تتمها وتدرك الإمام قبل تأمينه حتى تحصل فضيلة التأمين فحينئذٍ تتم، على ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣٣].

وأما إذا غلب على ظنك فوات الركعة فإنك تقطع الرغيبة، ويكون قطعك بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وإذا قطعتها بسلام كتب لك الأجر كاملاً؛ لأنك قطعت بعذرٍ على صورةٍ شرعية، فيكون تسليمك في موضعه، كأنك سلمت من الصلاة بعد كمالها في الحكم من ناحية الفضل، أما إذا قطعتها بدون تسليم فإنه لا يكون لك أجر العمل السابق، وذلك لأنه بمثابة الإلغاء للركعتين.

وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع هاتين الركعتين حضراً ولا سفراً، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا نام عن صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين قبل أن يفعل صلاة الفجر، ففي الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه لما عرّس عليه الصلاة والسلام ونام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في الوادي، في مقفله إلى المدينة، وقام وقد ارتفعت الشمس أمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين -وهما رغيبة الفجر- ثم أمره فأقام فصلى الصلاة.

وفي هذا دليل على مسائل: الأولى: أنه يجوز لك أن تتنفل قبل أن تفعل الفرض إذا كان وقت قضاء الفرض موسعاً، ومن هنا تخرّج قول من يقول: يجوز أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي رمضان بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ من نومه كان في الأصل مخاطباً بصلاة الفجر، وفي ذمته فريضةٌ هي صلاة الفجر، فاشتغل بالنافلة قبل القضاء؛ لأن الصورة صورة قضاء، فكذلك يجوز لك أن تشتغل بالنافلة بستٍ من شوال مع تعلق الذمة بقضاء رمضان لمكان التوسع في القضاء.

المسألة الثالثة: أن قضاء الفجر موسع إذا كان بعد طلوع الشمس، ووجه ذلك أنه يجوز لك أن تؤخر القضاء، وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تحول من الوادي إلى موضع آخر وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، وصلى رغيبة الفجر وهذا نوع تأخير، فأخذ منه بعض العلماء دليلاً على أن من استيقظ بعد طلوع الشمس وكان عنده أمرٌ ضروري واحتاج أن يفعله مع أنه عازمٌ على أن يفعل الصلاة بعد انتهائه من هذا الأمر ما لم يدخل وقت الظهر فلا حرج عليه في ذلك، على ظاهر هذا الحديث، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من الوادي لكونه حضره فيه الشيطان، وهذا على سبيل الفضل وليس على سبيل اللزوم والوجوب، ولذلك أجمعوا على أن من نام في موضعٍ لا يجب عليه أن يتحول عن ذلك الموضع ليصلي.

المسألة الثالثة: لو فرض أنك استيقظت على قربٍ من طلوع الفجر، بحيث لو صليت الرغيبة خرج وقت الفجر وطلعت الشمس فحينئذٍ يجب عليك أن تبتدئ بالفجر، وأن تلغي ركعتي الرغيبة وتجعلهما من بعد طلوع الشمس.

المسألة الرابعة: أنه يُسنّ قضاء رغيبة الفجر، وقضاء رغيبة الفجر لا يخلو من حالتين: إما أن لا يمكنك أن تصليها قبل الفجر، كأن تستيقظ عند الإقامة، فتأتي ولا يمكنك أن تصلي قبل صلاة الفجر، أو تخشى فوات الجماعة، ففي هذه الحالة هل بعد سلامك مع الإمام تقوم وتأتي بالرغيبة، أو تنتظر إلى طلوع الشمس؟ فأقوى ما دلت عليه النصوص أن تنتظر إلى طلوع الشمس؛ لورود المعارض من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

فإن صليت بعد الفجر ففيها أحاديث اختلف في أسانيدها، وإن كان تحسينها مقبولاً عند جمع من المحققين رحمة الله عليهم، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من قضى ركعتي الفجر بعد صلاة الفريضة.

والأفضل والأولى أن تصلي بعد طلوع الشمس، لكن إذا كان عند الإنسان عمل، أو غلب على ظنه أنه لو أخر القضاء إلى بعد طلوع الشمس فربما لا يتمكن من القضاء لوجود المشاغل، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يصليها بعد صلاة الصبح، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك في حال طلوع الشمس؛ فإنه في حال طلوع الشمس لا يجوز إيقاع النوافل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة)، وثبت في الحديث الصحيح: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا، ثم ذكر منها: إذا طلعت الشمس)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا طلعت فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فهذا بالنسبة لرغيبة الفجر وما فيها من أحكام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>