للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم صلاة الجماعة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [تلزم الرجال للصلوات الخمس لا شرط].

قوله: (تلزم) الضمير عائد إلى صلاة الجماعة، أي: تجب.

والمراد بالتعبير باللزوم الدلالة على أنها واجبة لازمة في ذمة المكلف، لكنه قال: (تلزم الرجال)، ومفهوم قوله: (الرجال) أنها لا تلزم النساء، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان من تعبير العلماء أن قالوا: ليس على النساء جمعة ولا جماعة.

أي: ليس على النساء أن يشهدن الجمعة ولا الجماعة، وهذا من باب درء المفاسد؛ إذ إنه لو أذن للنساء كلهن بالخروج لكان في ذلك مفاسد عظيمة وأضرار كثيرة لوجود العبء عليهن بالخروج.

وقوله: (تلزم الرجال) هذه الجملة ظاهرها أن كل مسلم بالغ من الرجال يجب عليه أن يشهد الصلاة مع الجماعة، والمراد بذلك الصلوات الخمس، وهذا الحكم اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد وداود الظاهري -وهو قول مأثور عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان- إلى أن صلاة الجماعة واجبة على كل بالغٍ ذكر، وأنه إذا تخلف عنها من غير عذر يعتبر آثماً.

ووافقه على هذا القول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي رحمة الله على الجميع، فعند أصحاب هذا القول أن صلاة الجماعة لازمة، ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا وجد عنده عذر من مرض يحبسه أو نحو ذلك.

القول الثاني: أن الصلاة ليست واجبة على الرجل.

وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.

وقد استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بالوجوب بدليل الكتاب والسنة والأثر: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:١٠٢]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قال: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وهذا أمر، والأمر للوجوب، ثم أمر الطائفة الثانية التي تخلفت بالشهود فقال تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:١٠٢]، قالوا: فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، وذلك في حال الخوف، فلأن تجب في حال الأمن والسلامة من باب أولى وأحرى.

وكذلك استدلوا بدليل السنة، وذلك بأحاديث: الأول: حديث أبي هريرة رضي الله الثابت في صحيح مسلم: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد.

فرخص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم.

قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة) رواه مسلم.

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هذا الرجل الأعمى مع وجود المشقة والعناء عليه بشهود الجماعة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، فدل على أنها واجبة لازمة، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فأجب)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وقال: (فإني لا أجد لك رخصة)، فدل على اللزوم، وأن من تخلف عن الجماعة آثم.

الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم).

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أنه سيعاقب من تخلف عن الجماعة، وأنه همَّ بمعاقبة من لا يشهد هذه الصلاة، ولا ترد العقوبة إلا على ترك واجب أو على فعل محرم، فدل على أن شهود الجماعة واجب، وأن التخلف عنها من غير ضرورة ولا عذر محرم.

الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة وغيره.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن من لم يشهد الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر، فدل على أنها واجبة لازمة، فهذا حاصل ما احتج به أصحاب القول الأول من دليل الكتاب والسنة.

وأما دليلهم من الأثر فما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتموها لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين فيقام في الصف.

ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا الصحابي الجليل الموسوم بالفقه والعلم والعمل أخبر عن أهمية هذه الصلاة، وأنها بمثابة اللازم الواجب الذي لو ترك لضل العبد بتركه، وهذا كله يؤكد وجوبها ولزومها؛ لأنه لا يوصف بالضلالة إلا على ترك الهدى اللازم والواجب على المكلف.

فهذا حاصل ما استدل به أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب.

أما من قال بعدم الوجوب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة).

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر كلتا الصلاتين، وجعل لصلاة الفرد فضلاً، فدل على أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبة لما ورد الفضل لضدها، أعني صلاة الفرد.

والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب صلاة الجماعة، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.

وأما ما استدل به من قال بعدم الوجوب فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما غاية ما دل عليه إثبات الأجر لصلاة الفذ، وذلك لا يستلزم عدم وجود الإثم المترتب على التخلف عن صلاة الجماعة.

ووجه ذلك أن يقال: إن الأحاديث التي أمرت بصلاة الجماعة دلت على وجوبها، وحديث أبي هريرة دل على المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، فكأن حديث أبي هريرة خرج عن موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع في الدلالة على الوجوب أو عدم الوجوب، وكون الأجر يرد على هذا أقل من غيره، أو يرد على هذا أكثر من غيره فهذا خارج عن موضع النزاع، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج عن موضع النزاع لم يصلح دليلاً على عين المسألة المختلف فيها.

وبهذا يترجح القول القائل بالوجوب.

وقوله: [للصلوات الخمس] أي: تلزم في الصلاة المكتوبة، وهي الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولذلك قيد المصنف رحمه الله إطلاق الوجوب واللزوم بهذه الصلوات الخمس على ظاهر النصوص؛ لأنها إنما وردت في الصلاة المفروضة والمكتوبة، وأما جماعة النوافل كصلاة التراويح والصلاة على الجنازة إذا كانت جماعة فهذه ليست بلازمة ولا واجبة على المكلف.

وقوله: [لا شرط] أي: صلاة الجماعة شهودها مع الجماعة واجب ولازم، ولكن ليس شرطاً في صحة الصلاة.

ونحن ذكرنا أن العلماء رحمة الله عليهم -الظاهرية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية- الذين قالوا بوجوب صلاة الجماعة انقسموا إلى طائفتين: فطائفة أوجبت صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى لوحده صحت صلاته.

وطائفة قالت بوجوب صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى فرداً من دون عذر لم تصح صلاته.

وإذا ثبت أن صلاة الجماعة واجبة، فهل وجوبها وشهودها شرط في صحة الصلاة أو ليس شرطاً؟ في المسألة قولان عند من يقول بالوجوب: قال الحنابلة، والحنفية والشافعية الذين يوافقونهم على وجوب صلاة الجماعة: إنها ليست بشرط في صحة الصلاة، فمن صلى منفرداً صحت صلاته وأجزأت ويأثم؛ لأنه لم يشهد الجماعة.

وقال الظاهرية -وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع- إنها واجبة وشرط في الصحة.

فلو صلى منفرداً بدون عذرٍ فإن صلاته باطلة على هذا القول.

وقد استدل الذين قالوا بالوجوب وأنها ليست بشرطٍ في الصحة بأدلة الوجوب التي ذكرناها؛ لأن الأصل أن من أدى صلاته كاملة بأركانها وشرائطها وواجباتها فصلاته صحيحة حتى يدل الدليل على البطلان.

فلو سألك سائل: ما الدليل على أن الأصل فيمن أدى الصلاة بأركانها وواجباتها أن يحكم بصحة صلاته تقول: حديث المسيء صلاته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين له ما يجب في الصلاة قال له: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فإذا صلى المنفرد وأدى الصلاة بأركانها وواجباتها انطبق عليه ما ورد في هذا الحديث.

أما فقهاء الظاهرية ومن وافقهم فقد استدلوا على بطلان صلاة المنفرد بدون عذر بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة، وهذا الحديث مختلف في إسناده وفيه كلام، ولكن على القول بصحته، قالوا: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: فلا صلاة صحيحة.

فدل هذا الحديث على بطلان صلاة المنفرد؛ لأنه صلى بدون عذر.

وأما الذين قالوا بصحتها فإنهم يقولون: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: كاملة، والذين يقولون بعدم صحتها يقولون: فلا صلاة صحيحة، فأصبح حديث ابن عباس متردداً بين نفي الكمال ونفي الصحة.

والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بصحة صلاة المنفرد ولو كان تاركاً للجماعة بدون عذر، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما احتج به أصحاب هذا القول.

ثانياً: أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث ابن عباس يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإنه معارض لما هو أصح منه، مع ما فيه من الطعن في روايته.

الوجه الثاني: من جهة المتن، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة له) يتردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، وال

<<  <  ج:
ص:  >  >>