للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تقديم أقرأ الناس للإمامة في الصلاة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصلٌ: الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته] الإمامة منصبٌ شريف ومقام عزيز مُنيف لا ينبغي لكل أحدٍ أن يتصدّر له، ولا ينبغي لكل أحدٍ أن يكون فيه إلا إذا كان أهلاً لهذا المقام، فحينئذٍ يجوز له أن يتقدم على الناس، وأن يتشرف بهذا المكان الذي يكون فيه مؤتمناً على صلاتهم، وإقامة هذه الشعيرة لهم، والناس تقتدي بالأئمة، فكلما كان الإمام على صلاح وتقوى لله عز وجل وعلمٍ بالشريعة وفقه في الدين ومعرفةٍ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم كلّما كان ذلك أدعى لحبِّه وحب الصلاة وراءه، والتأثر بقراءته ومواعظه وخطبه، الأمر الذي يكون له أحمدُ العواقب، وأحسنُ الثمرات، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن تهيئ لهذا المقام من توفرت فيه شروط الأهلية، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي مسعود في الصحيح-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).

فأمرنا عليه الصلاة والسلام أن نقدم الأقرأ لكتاب الله عز وجل، والسبب في ذلك أنّ الغالب في الإنسان إذا شرّفه الله وكمّله وفضّله بحفظ كتابه فالأصل فيه أن يكون من أهل كتاب الله العالمين به، العاملين بما فيه، ومثل هؤلاء أئمة يُقتدى بهم إذا كان القرآن إماماً لهم في القول والعمل والاعتقاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).

فلما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحفظ كتاب الله عز وجل إلا من علمه وعمل به كان ذلك أدعى لتقديم هؤلاء الخيرة البررة الذين هم صفوة الله عز وجل من الخلق، أعني العلماء بكتاب الله العاملين به.

فالمصنف رحمه الله بعد أن بين لنا حكم صلاة الجماعة، والمسائل المتعلقة بمباحث صلاة الجماعة شرع في بيان من الذي يُقدّم للإمامة لكي يُصلِّي بالناس جماعة، فقال رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ] وفي هذه النسخة [العالم فقه صلاته]، وفي غيرها الإطلاق: [الأقرأ]، وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، ولذلك لا بد من بيان المراد بقولهم: (الأقرأ) ثم بعد ذلك نبيِّن أقوالهم وأدلتهم، والراجح من الأقوال والأدلة.

فلفظ (الأقرأ) اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين: قال بعض العلماء: الأقرأ: هو الأكثر أخذاً للقرآن، والمراد بذلك أن يكون حفظُه أكثر من غيره، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال ذلك فَهِم منه الصحابة هذا الفهم، كما في الحديث في الصحيح أن سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما كان يؤم المهاجرين والأنصار، وذلك في المدينة قبل مقدِم النبي صلى الله عليه وسلم قال الراوي: وكان أكثرهم قرآناً.

فقوله: كان أكثرهم قرآناً، أي: كان حفظه أكثر.

وكذلك استدلوا بحديث عمرو بن سلمة، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا فارقه قوم أبي سلمة قال لهم: (وليؤمكم أكثركم قرآناً) قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذاً للقرآن، فقدموني.

ووجه الدلالة أنه علَّق التقديم على كثرة الحفظ، فدلّ على أن المراد بالأقرأ الأكثر حفظاً للقرآن، وعلى هذا يُقدم حافظ القرآن كله على من حفظ ثلاثة أرباعه، ويقدم من حفظ ثلاثة أرباع القرآن على من حفِظ النصف ولو كان أكثر ضبطاً لأحكام التجويد والترتيل، فهذا هو الوجه الأول، فالعبرة عندهم بكثرة الحفظ، ولكن يلاحظ أنهم يرون مع كثرة الحفظ أن يكون ضابطاً لما ينبغي أو يُشترط لصحة التلاوة واعتبارها.

القول الثاني يقول: إن المراد بالأقرأ الأتقن في مخارج الحروف وضوابط القراءة، وهو المجوِّد لكتاب الله عز وجل الذي يحسن ترتيله ويحسن تحبيره وتتأثر الناس بقراءته أكثر، وهذا القول يعتمد على ظاهر اللفظ في قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؛ فإن اللغة العربية تدل على أن (الأقرأ) أفعل تفضيل، والمراد به أنه فَضُل على غيره بحسن التلاوة وحسن الأداء للقراءة، فقالوا: المهم عندنا أن يكون محبِّراً لكتاب الله عز وجل، وعلى هذا الوجه.

فلو اجتمع حافظٌ للقرآن كله وحافظٌ لنصف القرآن، والذي يحفظ نصف القرآن أكثر ضبطاً لأحكام القراءة، والناس تتأثر بقراءته أكثر، ويُحسن تحبيره وتجويده قالوا: يُقَدَّم على من هو أكثر حفظاً منه.

والذي يظهر -والعلم عند الله- أن العبرة بكثرة الحفظ، وليس المراد التحبير وحسن النغمات والمبالغة في التجويد، وعلى هذا فلو اجتمع من هو أكثر حفظاً للقرآن مع من هو أحسن أداءً وأحسن ترتيلاً وتجويداً فإنه يُقَدَّم الأحفظ؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فَهِموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه هو المعوَّل وعليه العمل.

وإذا عرفنا ما هو المراد بالأقرأ ف

السؤال

لو اجتمع عندنا رجلان أحدهما أقرأ، سواءٌ أكان أكثر أخذاً للقرآن أم أكثر ضبطاً للقرآن، والآخر أفقه، بمعنى أنه يعلم أحكام الصلاة وما يكون فيها من أحكام السهو ونحوه، وما يطرأ فيها من الطوارئ التي يحتاج الأئمة فيها إلى جبر النواقص والزوائد، أو كان عالماً بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، فهل نُقدِّم الأقرأ أو نقدم الأفقه؟ في ذلك قولان للعلماء: القول الأول: ذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، ووافقه جمعٌ من المحدثين، وبه قال بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الأقرأ لكتاب الله يقدم على الأفقه.

القول الثاني -وهو قول الجمهور-: أن الأفقه يقدم على الأقرأ، فلو اجتمع حافظٌ للقرآن ومن هو أكثر منه علماً وفقهاً في الدين فإنه يقدم الأفقه والأعلم بالحلال والحرام على الحافظ لكتاب الله عز وجل.

واستدل الذين قالوا بتقديم الأقرأ بظاهر حديث أبي مسعود رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، ووجه الدلالة من هذا الحديث واضح، حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، قالوا: فقدّم الأقرأ على الأعلم بالسنة فدل على أن القارئ مقدمٌ على الفقيه.

وأصحاب القول الثاني احتجوا بحديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامته، كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم أبا بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه من أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: قُدِّم لفقهه لا لقراءته؛ لأن أُبياً رضي الله عنه أعلم منه بالقراءة، ومع هذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فدل هذا على أن الأفقه مُقدمٌ على الأقرأ، وهناك أدلة أخرى، ولكن المعوَّل على هذين الدليلين، فالأول حديث أبي مسعود رضي الله عنه، والثاني حديث أبي بكر في إمامته.

ومما علل به الجمهور لمذهبهم أن قالوا: إن الأقرأ نحتاج إليه للقراءة، والقراءة تتعلق بركنٍ واحدٍ وهو القيام.

وأما بالنسبة للأفقه فنحتاج إليه في أركان الصلاة؛ فإن الصلاة قد يطرأ فيها السهو، فتطرأ فيها الزيادة ويطرأ فيها النقص، وتختلج الصلاة على الناس، فإذا كان الأفقه موجوداً أو هو الإمام فإن ذلك أدعى لتعليم الناس، وهو أعرف وأعلم بما ينبغي فِعله على الإمام في مثل هذه الأحوال الطارئة.

فكأن الفقه يُحتاج إليه لأركانٍ، والقراءة يُحتاج إليها لركن، فقُدِّم ما يحتاج إليه لأركانٍ على ما يحتاج إليه لركنٍ واحد.

والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بتقديم الأقرأ لكتاب الله، وذلك لظاهر السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أن سالماً مولى أبي حذيفة -كما في الصحيح- كان يؤم المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فإنها لم تتمحض بإمامة الصلاة، وإنما قُصِد منها الإشارة إلى استخلافه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج الدليل عن موضع النزاع، ولذلك يُعتبر تقديم الأقرأ لكتاب الله هو المعوّل عليه، لكن ينبغي أن يُنبه على أن الأقرأ يُقدَّم إذا كان عنده إلمام بضوابط الصلاة، وليس المراد أن يُقدَّم مطلقاً حتى ولو كان جاهلاً ببعض الضوابط، كالأمور التي تطرأ في السهو ونحوه.

فقول المصنف رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ]، أي: أقرأ الناس لكتاب الله عز وجل.

والسبب في هذا ظاهر؛ فإن القرآن يشرِّف أهله، ويرفع من مكانتهم في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعمله)، وما أوتي أحدٌ عطاءً أشرف ولا أكمل -بعد الإيمان بالله عز وجل- من حفظ كتاب الله عز وجل والعمل بهذا الكتاب؛ فإنه نور في قلبه، ونورٌ له في حشره، ونورٌ له بين يدي ربه ولذلك إذا أنعم الله على العبد بهذا الكتاب فإنه يشرِّفه ويكرِّمه، ولم يبق إلا أن يُكرم قارئ القرآن ما في قلبه، فيصونه -أو يصون نفسه- عن الأمور التي لا تليق بمثله.

وقوله: [العالم فقه صلاته] هذا إضافة في بعض النسخ، فنُقدِّم الأقرأ إذا كان عنده إلمام بفقه الصلاة، لكن لو كان عندنا إنسان يحفظ القرآن ولكنه يجهل أحكام الصلاة، ولربما يقع الناس في لبس في صلاتهم فحينئذٍ لا يُقدَّم؛ لأنه قد يُعرِّض صلاة الناس للفساد.

قال رحمه الله تعالى: [ثم الأفقه].

(ثم) تقتضي الترتيب، فيُقدم بعد الأقرأ الأفقه، والأفقه: أفْعَلٌ، من فقه الشيء: إذا فَهِمه.

ويقال: إن الفقه يختص بالمعضلات، ولا يكون إلا في المسائل الدقيقة، والفقه شرف ونعمةٌ عظيمة يُنعم الله عز وجل بها على من شاء من عباده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين

<<  <  ج:
ص:  >  >>