للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التفصيل في قاعدة: القول مقدم على الفعل]

السؤال

ما قولكم في قاعدة: (القول مقدم على الفعل)، وتطبيقها على مسألة البول جالساً؟

الجواب

قاعدة: (القول مقدم على الفعل) فيها تفصيل: قال بعض العلماء: إذا تعارض القول والفعل قدم القول مطلقاً.

وقال بعض العلماء بالجمع بين القول والفعل، فإذا كان القول تحريماً والفعل يدل على الإباحة حمل النهي على الكراهة، كنهيه عن الشرب قائماً وشربه عليه الصلاة والسلام قائماً، قالوا: يصرف إلى الكراهة، وكذلك أيضاً في الجمع بينهما في الحمل على الندب والاستحباب.

والصحيح: أن معارضة القول للفعل تأتي على صور مختلفة: فتارة يقوى تقديم القول على الفعل، وتارة يقوى الجمع بين القول والفعل، وهذا يحتاج إلى نظر الفقيه ومعرفته بنصوص الشريعة ومعرفة مقاصدها، ومعرفة قوة دلالة الفعل، فإذا كان الفعل لا يقوى على صرف القول تبقى دلالة القول تشريعاً للأمة، ويبقى الفعل إما خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يصرف على وجه لا يعارض به القول، ولهذا نظائر كثيرة.

من أمثلة ذلك: نهيه عليه الصلاة والسلام أن يَنكح المحرم أو يُنكح أو يخَطب، وقد جاء عنه أنه تزوج ميمونة وهو محرم، كما في حديث ابن عباس في الصحيح.

فقال بعض العلماء: إنه يجمع بينهما بحمل النهي على الكراهة، وهذا قول الإمام أبي حنيفة ومن وافقه، فصرف القول من التحريم إلى الكراهة بالفعل.

والصحيح: أن الفعل هنا لا يقوى على معارضة القول؛ لأن قول ابن عباس: (وهو محرم) يحتمل وجهين: وهو محرم أي في حرم مكة، أو محرم أي: في الأشهر الحرم، والعرب تسمي من كان في الأشهر الحرم محرماً، وتسمى من دخل الموضع الحرام محرماً، ومنه قول حسان في رثاء عثمان: قتلوا الخليفةَ ابن عفان بالمدينةِ محرماً أي: في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم.

فهذا لا يعتبر فيه الفعل معارضاً للقول؛ لأن قول ابن عباس محتمل، وكذلك أيضاً الشرب قائماً منه عليه الصلاة والسلام دلالة الفعل فيه تحتمل التخصيص؛ لأنه حُفِظَ من القرين عليه الصلاة والسلام، وقد أمر من شرب قائماً أن يستقيء.

وكذلك أيضاً: ورد أنه شرب من زمزم قائماً، وزمزم فيها معنى التخصيص، فنقول: يجمع بين القول والفعل، فيمنع من الشرب قائماً في غير زمزم، وزمزم يسن شربها قائماً؛ لأنه شربها على بعيره، ولأن المقصود من زمزم أن يرتوي الإنسان منها، فيكون الأبلغ في ارتوائه أن يشرب قائماً لا جالساً.

فالمقصود: أن تعارض القول مع الفعل يحتاج إلى معرفة الفقيه لأصول الشريعة، وقوة دلالة القول والفعل، مثال ذلك: المسألة التي تقدمت معنا، فإن حديث ابن عمر قوة دلالته على الإباحة محل نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في مكان لم يره فيه أحد، ولم يقصد اطلاع ابن عمر؛ لأنه لا يعقل أن النبي صلى الله عيه وسلم يريد من ابن عمر أن يطلع عليه، وقد حصل هذا الاطلاع فجأة من ابن عمر، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد اطلاع ابن عمر لقال للأمة: استقبلوا في البنيان دون الصحراء، فدل على أن دلالة الفعل هنا ضعيفة كما نبّه عليه الحافظ ابن دقيق، وله بحث نفيس في شرحه على العمدة.

فالمقصود: أن القواعد لا تؤخذ على الإطلاق في تعارض القول والفعل، وإنما ينظر إلى أحوال المسائل واختلاف النصوص.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>