للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صلاة المنفرد خلف الصف وما يتعلق بها]

قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقف معه إلا كافرٌ أو امرأة أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض ففذ].

هذا نوع من التسلسل في الأفكار، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون لك الأصل، وبعد تقريرهم للأصل يبينون ما استُثني من الأصل، أي يبين الأصل الذي دلت عليه النصوص، ثم بعد ذلك يرد السؤال في الأحوال الطارئة.

فنحن لو قلنا: إن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف، فهذا يأتي على صور، فإن كان المنفرد جاء وصلى وحيداً وراء الصف فلا إشكال في أن هذا انفراد حقيقي.

وهناك نوع ثانٍ وهو الانفراد الحكمي، وصورة ذلك: أن يصلي معه صبي، أو يصلي معه كافر، أو يصلي معه محدِث يعلم بحَدَثه، فهؤلاء وإن كانت صورة حالهم أنهم مؤتمون، ولكنهم في الحقيقة وجودهم وعدمهم على حد سواء، فإن الكافر لا تصح صلاته، والصبي لا تعتبر مصافته على هذا القول الذي درج عليه المصنف رحمه الله، والمحدِث كذلك صلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).

فمعنى ذلك أن المحدث الذي يصلي بجانبه لا صلاة له، وإذا كان لا صلاة له فإنه حينئذٍ لا تعتبر مصافّته، فوجوده وعدمه على حد سواء.

وأما الكافر فإنه لا إشكال أن الكافر وجوده وعدمه على حد سواء، والمحدث لا إشكال أن وجوده وعدمه على حد سواء، وبقي عندنا اثنان: أحدهما الصبي، والثاني المرأة.

فلو فرضنا أنك جئت والإمام في ركعة من الركعات، فجئت وكبرت وبجوارك صبي ليس هناك غيره، وأنت وإياه دون الصفوف، فهل تعتد بهذه الركعة وتصح صلاتك، وتعتبر في حكم من دخل الصف، أم أن وقوف الصبي بجوارك وجوده وعدمه على حد سواء فأنت منفرد، ولو كنت في الظاهر مع غيرك؟

الجواب

هذه المسألة فيها قولان للعلماء: فالجمهور على أن الصبي يُعتبر من صلى بجواره غير فذ وصلاته صحيحة.

وذهب بعض الحنابلة رحمة الله عليهم -ونص البعض أنه هو مذهب الإمام أحمد - إلى أنه لا يُعتد بالصبي، وأنه يلزمه أن يعيد صلاته إذا لم يأتِ بالغ يعتد بموقفه.

والصحيح مذهب الجمهور أن وقوف الصبي معك معتد به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل على صحة الصلاة واعتبارها منهم، وأمر بضربهم عليها لعشر.

والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره أداره عن يمينه، فدل على أنه معتد بموقفه، إذ لو لم يكن لموقفه اعتداد لما كان لإدارته من فائدة؛ لأنه يستوي أن يقف هنا أو هنا إذا كان لا يُعتد به.

فدل على أن الصبي يُعتبر وقوفه مع الإنسان رافعاً لوصف الفردية، كذلك أيضاً مما يؤكده حديث أنس في الصحيحين: (وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا) فقوله: (وصففت أنا واليتيم وراءه) يدل على أن الصبي يعتبر رافعاً لوصف الانفراد.

إذ لو لم يكن رافعاً لقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم أنساً يصلي بجواره، فلو قال قائل: إن أنساً ربما كان صبياً، أو صغير السن، فجوابه: ولو قلنا بذلك! ألا تراه عليه الصلاة والسلام أخَّرهما، فدل على أنهما اثنان، وإذا كانا اثنين فمعنى ذلك أنه معتدُّ بوقوف اليتيم مع أنس، فبوقوف أنس مع اليتيم صارا بمثابة الصف، وعلى هذا فمن وقف بجوار صبي صحت صلاته، ولا يعتبر منفرداً على الصحيح.

وأما المرأة ففيها خلاف أيضاً: فمن العلماء من قال: إن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل وهو فذ فصلاته صحيحة، ويرتفع عنه الوصف المؤثر الموجب لبطلان صلاة الفذ؛ لأنه ليس بفذٍ.

وهذا مذهب المالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

والقول الثاني يقول: إن وقوف الرجل بجوار المرأة لا يعتبر رافعاً لوصف الفذ، بل هو فذ وشدد الحنفية وقالوا: لو وقف الرجل بجوار امرأة، أو صف الرجل بجوار النساء ولو كان معه رجال من الطرف ونساء من الطرف، ولو امرأة واحدة بالغة بطلت صلاة الرجال الذين صفوا والنساء.

وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل، وبينا أن الصحيح أن الرجال إذا حاذوا النساء لا تبطل صلاة الرجال؛ لأنه ليس ثم دليل على أن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل تُبطِل صلاته، لكن المسألة التي معنا هي أنه لو وقفت المرأة مع الرجل فإنه فذ على الصحيح، وهو المذهب، والسبب في ذلك واضح، وهو أن الشرع أمر المرأة في هذه الحالة أن تتأخر، فإن تقدمت وصافت الرجل فإن هذا التقدم منهي عنه شرعاً، والمنهي عنه شرعاً لا يُعتد به ولا يُحتسب، فصار وجوده وعدمه على حد سواء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>