للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نية الإقامة فوق أربعة أيام]

قال: [أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام].

هذه مسألة مبنية على وصف السفر إن قلنا: إن للسفر حداً معيناً، وإنَّ المسافر ينتهي إلى أمد يحكم فيه بكونه مقيماً، فالناس ثلاثة أقسام: القسم الأول: مسافر، وقد بينا حكمه.

والثاني: المقيم، ولا إشكال في حكمه.

والثالث: من هو في حكم المقيم، فهو مسافر في الأصل لكنه يأخذ حكم المقيم.

وهذا التقسيم مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم، فالسفر قد ينتقل الإنسان به إلى حكم المقيم، فيكون الإنسان مقيماً ومسافراً ومسافراً في حكم المقيم، والذي في حكم المقيم للعلماء فيه خلاف مشهور، وفيه أكثر من خمسة عشر قولاً بين العلماء رحمة الله عليهم في ضابطه، والسبب في ذلك اختلاف الأدلة، فالجمهور يقولون -من حيث الجملة- العبرة بأربعة أيام، ولا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج.

وتوضيح ذلك أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر وقصر الصلاة، والنصوص تدل على أن المقيم يجب عليه إتمام الصلاة، فأصبحت عندنا حالتان: حالة سفر، وحالة حضر.

فمن كان حاضراً فإنه يتم، ومن كان مسافراً فإنه يقصر، فجئنا ننظر إلى تأقيت السفر فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينقل المسافر عن كونه مسافراً إلى كونه مقيماً بالزمان، وذلك في حديث المهاجرين حينما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام، فإنه لما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام دل على أنهم في اليوم الرابع ينتقلون إلى حكم المقيم، وتوضيح ذلك أنهم تركوا مكة لله، والعلماء يقولون: من هاجر من بلد لله -كأهل مكة حينما هاجروا من مكة إلى المدينة- لا يجوز له أن يرجع إليها ويقيم فيها؛ لأنه لما هاجر عنها تركها لله عز وجل، ولذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا بمكة، وقال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ثم قال: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم خائبين).

ووجه الدلالة أن المهاجرين لا يبقون في مكة، وإذا كانوا لا يبقون بمكة فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الثلاثة الأيام دل على أنهم لو بقوا اليوم الرابع انتقلوا إلى حكم المقيم بمكة، وأكدوا هذا بأنه عليه الصلاة والسلام حينما قدم في حجته قدم لصبح رابعة، ثم انطلق في اليوم الثامن يوم التروية إلى منى، فدل هذا على أن أقصى ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام هذه المدة.

أما ما ورد عنه في تبوك فإنه كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم مدة إقامته، ونحن نتكلم على علم مدة الإقامة، أي: إذا علم المسافر مدة إقامته، فلما رخص للمهاجرين هذا القدر تحددت المدة.

أما إذا لم تعلم المدة كإنسان قدم مدينة لا يدري كم يمكث فيها لحاجة أو لغرض، فحينئذٍ يقصر الصلاة مدة جلوسه ولو جلس سنة كاملة، فإن أنساً رضي الله عنه مكث ستة أشهر -حينما حاصرهم الثلج في الفتوحات- يقصر الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، وحملوا عليه حديث تبوك، فإن غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى بني الأصفر يريد قتالهم فأرسل العيون، ومعلوم أنه إذا أرسلت عيون الجيش فربما بعد لحظة يأتي العين ويقول: إنهم على ماء كذا، كما هو معلوم، وربما يأتي بعد يوم، وربما يأتي بعد يومين أو بعد ثلاثة، فالأمر محتمل، ولا يدرى كم القدر، فجماهير العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إنه محمول على من جهل المدة وهذا واضح من ظاهر السنة؛ لأنه لما قدم إلى تبوك جهل مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، وليس هناك نص واضح أنه نوى إقامة مدة معينة، ولذلك قالوا: أرسل العيون على حسب الحال، فإن وجد حالاً يقتضي القتال بإخبار العيون تقدم، وإن لم يجد رجع عليه الصلاة والسلام، فمكث هذه المدة جاهلاً بالأمد، فقسموا حالة المسافر إلى حالتين: الحالة الأولى: أن يعلم مدة إقامته.

الحالة الثانية: أن لا يعلم مدة إقامته.

فإن لم يعلم مدة إقامته فإنه يقصر أبداً، ولو جلس سنة كاملة.

وإن علم مدة إقامته فحينئذٍ إما أن تكون دون أربعة أيام، وإما أن تكون أربعة أيام فأكثر، فإن كانت دون أربعة أيام قصر، وإن كانت فوق الأربعة الأيام فإنه يتم صلاته ويأخذ حكم المقيم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>