للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الجمع بين أدلة صلاة النبي للجمعة قبل الزوال وصلاته بعد الزوال]

السؤال

كيف نجمع بين حديث جابر: (كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس)، وحديث: (ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به)، وحديث: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)؟

الجواب

حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه هو عمدة، وهو أقوى ما احتج به من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع صلاته وخطبته قبل زوال الشمس، ولكن أجيب عن هذا القول بأن حديث جابر رضي الله عنه معارض بحديثين: أولهما: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ثانيهما: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في صلاته عليه الصلاة والسلام حين تزول الشمس.

والقاعدة أنه إذا تعارض حديثان يحمل المحتمل على الوجه الذي يجمع به بينه وبين غير المحتمل، فإن حديث أنس من أقوى الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى إلا بعد زوال الشمس، فيكون قوله: (نريح نواضحنا) متأخراً عن قوله: (صلى عليه الصلاة والسلام ... ) أي: كنا نصلي حين تزول الشمس، ثم نريح نواضحنا.

لأن إراحة النواضح ليست مقصودة بالذكر، وليس زمانها مقصوداً ولا مبحوثاً عنه، فذكرت تبعاً لا أصلاً، وإنما يستقيم الاستدلال لو كان المعنى المفهوم أنه يخطب ثم يصلي ثم تراح النواضح حين تزول الشمس، وهذا -كما قلنا- ليس مراداً، على أن جابراً رضي الله عنه قصده أنه عليه الصلاة والسلام ابتدأ صلاته وخطبته عند زوال الشمس.

وأما حديث أنهم كانوا يتبعون الفيء فلم يكن للحيطان ظل فهو حديث صحيح، ومعناه أنه ليس لها ظل يستظل به، كما قال جماهير الشرّاح، وهذا صحيح؛ فإن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تزيد على خمس دقائق، وهذا أمر حقيقي وواقعي، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من مئنة فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالجمعة والمنافقين، فإذا جئت تنظر إلى الجمعة فهي صفحة كاملة، وإذا جئت تنظر إلى المنافقين فهي كذلك صفحة كاملة، فمعنى ذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام دون الصفحتين، مع أنه عليه الصلاة والسلام من الفصاحة بمكان، وكلامه من الوضوح في غاية البيان صلوات الله وسلامه عليه، فتقسم الخطبتين على صفحة ونصف، فالخطبة الواحدة لا تبلغ الصفحة الكاملة، فكانت خطبته عليه الصلاة والسلام من القصر بمكان، وصلاته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بالجمعة والمنافقين مع ترتيله وحسن أدائه صلوات الله وسلامه عليه قد لا تعدو ربع ساعة.

والزوال يحتاج إلى حساب دقيق؛ لأن الشمس إذا تحركت من الزوال تحتاج إلى وقت، وهذا التحرك يستغرق قرابة أربع دقائق في انسحاب الشمس عند زوالها، ثم تحسب تبين الزوال، فإذا كان انسحاب الشمس في زوالها في حدود هذا الوقت اليسير فمتى يكون الفيء والظل للحيطان؟!! فإذا ابتدأ صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أو عند زوالها وخطب في هذا القدر اليسير، ثم صلى بالناس عليه الصلاة والسلام -وكان لا يملهم- ثم انصرفوا، فإن الحيطان حينئذٍ لها ظل، ولكن ليس بذاك الظل؛ لأنه إذا كان لها ظل كبير فقد اقترب خروج وقت الظهر.

فالمشكلة أن بعض الأحاديث تفهم بناءً على الواقع؛ لأن الإنسان إن نظر إلى أن الجمعة تأخذ نصف ساعة، وأنه يركب سيارته، ثم يدخل إلى المسجد، ثم ينظر إلى الوقت الذي يضيع، فإنه يظن أن الجمعة تستغرق هذا الوقت الكبير، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج من حجرته إلى المنبر مباشرة، ولا يصلي ولا يتنفل قبل خطبته، ويلغى كلامه على الناس عند ابتداء الزوال، ويؤذن بلال بدون تمطيط ولا أخذ وقت، ثم يقوم عليه الصلاة والسلام ببيانه وفصاحته بالكلمات اليسيرة، ثم يصلي بالناس وتنتهي الجمعة، فهذا القدر إذا جئت تحسبه ربع ساعة أو ثلث ساعة صدق عليه أنه لو انصرف الناس بعده لا يجدون للحيطان ظلاً، وفي رواية: أنهم كانوا يتتبعون الفيء، ومعنى ذلك أن هناك حيطاناً، وأنه قد زالت الشمس.

ثم إننا نقول: إن حديث جابر قد عارضه حديث أنس، فعارض المحتمل غيرُ المحتمل، إضافة إلى حديث سلمة.

وأما حديث: (ما كنا نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة)، فهذا لا إشكال فيه؛ فإن غداء الناس ومقيلهم نسبي، والقيلولة المعروفة قيلولة الضحى؛ لأن الوقت من طلوع الشمس إلى زوالها وقتان: ضُحى وضَحى، فإذا طلعت الشمس فهو الضُحى إلى أن تصل إلى ثلاث ساعات، وبعده يبدأ الضَحى -بالفتح- والضَحى قبل الزوال ما بين الضُحى وزوال الشمس، ثم بعد ذلك إذا زالت الشمس فإنه قد انتهى انتصاف النهار ودخل الإنسان في العشي، وقد كان من عادتهم أنهم ينامون قبل الظهر، وهذه هي القيلولة، وهذه القيلولة تعين على قيام الليل؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا نامها يستعين بها على قيام الليل، وهذا شيء معروف ومجرب، ولذلك تجد كبار السن يسهل عليهم قيام الليل، وهم يحافظون على هذه النومة التي قبل الظهر، وتكون قبل الظهر بحدود الساعة، وهي قائلة الضَحى التي عناها الصحابي بقوله في البخاري: (فنقيل قائلة الضَحى)، فكانوا لأجل اشتغالهم بالجمعة اغتسالاً وتهيؤاً لا يتمكنون من هذا النوم، فكانوا يؤخرونه إلى ما بعد صلاة الجمعة، فقوله: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة) لا علاقة له بالوقت، وليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع الجمعة أثناء وقت الضَحى، ولم يصرح الصحابي بهذا، وإنما قال: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة)، وهذا ليس كصريح حديث أنس رضي الله عنه الذي يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وابتدأ صلاة الجمعة حين زالت الشمس، وأياً ما كان فعندنا أصول، والفقه الرجوع إلى الأصول، ألا ترى الصحابة رضوان الله عليهم لما مضوا إلى بني قريظة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في قوله: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فقالت طائفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل فتصلى العصر في وقتها، وطائفة قالت: لا نصلي إلا في بني قريظة.

فلما قدموا على بني قريظة قدموا بعد غروب الشمس فصلوا العصر بعد الغروب، فلما حكوا للنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم، فعذر الطائفتين؛ لأن الجميع عنده نص، لكن قال صلى الله عليه وسلم للذين صلوا في الوقت: (أصبتم السنة) التفاتاً إلى الأصل.

فإذا كانت الجمعة قائمة مقام الظهر بدليل الشرع وإجماع العلماء على أن من فاتته الجمعة يصلي الظهر، وهي بدل عن الظهر، فالأصل أنها تصلى بعد الزوال، وعندنا نصوص تؤكد أنها بعد الزوال، فإذا جاءت نصوص تدل على أنها تقع قبل الزوال، أو يفهم منها أنها تقع قبل الزوال، فإنه يرجع إلى ما يكون أبرأ وأقرب إلى الأصل، فنقول: إنه لا يجمِّع إلا بعد الزوال، ولكن الأفضل أن يوقع الجمعة عند ابتداء الزوال تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على نبينا محمد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>