للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كيفية الخطبة والدعاء في الاستسقاء]

قال رحمه الله تعالى: [فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد، ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به].

ما ذكره المصنف في شأن الخطبة هو كما ذكر بعض العلماء إلحاقاً لها بصلاة العيد على ظاهر حديث ابن عباس حينما وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أنها كصلاة العيد.

وقوله: (يفتتحها بالتكبير).

الأولى والأقوى أن يستفتح بحمد الله عز وجل، لكن لو كبّر وهو يتأول فهو قول له سلف من العلماء قالوا به، وإن كان الأولى والأقرب للسنة أن يبدأ بحمد الله عز وجل والثناء على الله سبحانه وتعالى، على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي تقدمت الإشارة إليه، وهو عند أبي داود وغيره.

قوله [ويكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به].

آيات الاستغفار كقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:١٠ - ١٢]، فلما ورد هذا النص في كتاب الله عز وجل دل دلالة واضحة على أن الاستغفار من أعظم الأسباب التي يرحم الله بها عباده فيسقيهم الغيث.

ولا يقف الأمر عند هذا، بل إنه سبب في وضع البركة في الأموال والأولاد، فمن أكثر الاستغفار فإنه يخرج من ذنوبه، وإذا خرج الإنسان من ذنوبه خرج من أسباب البلاء، وكان ذلك من أعظم الأمور التي يجعل الله بها خير دينه ودنياه وآخرته.

قال رحمه الله تعالى: [ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ... ) إلى آخره].

رفع اليدين في دعاء الاستسقاء ثبتت به النصوص الصحيحة، ومن أقواها حديث أنس في الصحيحي وأنه وصف رفعه حتى ذكر أنه كان يبالغ حتى يرى بياض إبطيه.

وكذلك رفع يديه في استسقائه عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، وقد ذكرنا في صلاة الجمعة أنه يشرع للإمام إذا دعا للاستسقاء أن يرفع يديه، وقد جاء رفع اليدين عند الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقل عن ثلاثين حديثاً، وذكر الإمام النووي أنه جمع نحو ذلك من الصحيحين أو أحدهما كلها في رفعه عليه الصلاة والسلام ليديه في الدعاء، وهذا في مواضع مختلفة.

فرفع اليدين في الدعاء لا حرج فيه إلا في العبادات التوقيفية كالحج والعمرة ونحو ذلك، فيتقيد فيها بالوارد، ولا يرفع إلا حيث ورد الرفع.

فلو أن إنساناً في لحظة ما أراد أن يدعو فرفع يديه ففي هذا عدد من الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة والحسنة التي تدل على رفعه، حتى أفردها الإمام النووي بالتصنيف، وأفردها كذلك الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بعد كتاب الدعوات، وأفردها أيضاً السيوطي في كتابه: (فض الوعاء بمشروعية رفع اليدين في الدعاء)، وذكر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، وهي ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في العبادات التوقيفية لا يشرع رفع اليدين إلا في المواطن التي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فيها، فهذا هو السنة والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وبناءً على ذلك: فإذا أراد أن يستسقي يشرع له أن يرفع يديه في الاستسقاء، ويرفع يديه مبالغاً في الرفع حتى يرى بياض إبطيه، وإذا كان عليه الثوب يكون في حكم من انكشف إبطه، بمعنى أنه يبالغ في رفع اليدين حتى يظهر شدة الفاقة لله سبحانه وتعالى.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قلب كفيه صلوات الله وسلامه عليه في الدعاء، وللعلماء في هذا القلب وجهان: فمنهم من يقول: هو سنة توقيفة لا تشرع إلا في هذا الموضع.

وبناءً على ذلك لا يشرع أن يقلب الإنسان كفيه إلا في هذا الموضع من دعاء الاستسقاء، وتكون مناسبته -كما ذكر بعض العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ هذا من الفأل، والفأل تقرّه الشريعة، كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة)، والفأل: أن يسمع الإنسان، أو يرى شيئاً يبشره بالخير، كأن يريد السفر فيسمع إنساناً يقول: يا سالم.

فإنه فأل بالسلامة؛ لأن الفأل يحمل الإنسان على حسن الظن بالله عز وجل، ويزيد من اعتقاده بالله جل جلاله، بخلاف التشاؤم؛ فإن التشاؤم يصرفه إلى الاعتقاد في الأشياء، والاعتقاد في الأزمنة، والاعتقاد في الأشخاص، فإذا رأى مشلولاً أو أعمى تشاءم فصار يعتقد في الأشخاص أنهم شؤم عليه، فيفطعن هذا في عقيدته وتوحيده -نسأل الله السلامة والعافية- لكن الفأل الحسن يحسّن ظنه بالله عز وجل، فقلب كفيه عليه الصلاة والسلام من باب الفأل الحسن، فإنه سأل ربه وكأنه يقول: أرجو أن الله يبدل الحال، أو يغيّر ما بالناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الضيق إلى السعة، ومن القحط إلى الغيث، ومن الجدب إلى المراعي الخصبة التي ينتفع بها الناس والدواب وخلق الله عز وجل، وهذا -كما قلنا- من باب الفأل.

ومن العلماء من يقول: إنه يشرع عند كل دعاء في شدة، وفيه حديث حسنه بعض العلماء، إلا أن فيه ابن لهيعة.

والأقوى أن هذا يختص بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في غيره فيكون السؤال ببطن الكف، كما هو الأصل في دعاء الله عز وجل وسؤاله الثابتة به الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: (اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً ... ) إلى آخره).

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (اللهم أغثنا.

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً.

هنيئاً مريئاً مريعاً عاماً طبقاً سحاً غدقاً عاجلاً غير آجل ولا رائف تنبت به الزرع، وتدر به الضرع، وتحيي به بلدك الميت، سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق ولا هدم)، وكذلك ورد عنه: (اللهم إن بالعباد والبلاد من البلاء واللأواء والجهد ما لا يشكى إلا إليك، ولا يعول في رفعه إلا عليك، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، وكذلك: (اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين)، وغير ذلك من الأدعية التي وردت في الكتاب فيها استرحام، واستغفار وسؤال الله عز وجل الرحمة بعباده، فكل ذلك لا حرج على الإنسان أن يدعو به.

<<  <  ج:
ص:  >  >>