للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الدعاء المأثور في صلاة الجنازة وشرحه]

قال رحمه الله: [ويدعو في الثالثة فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته فتوفه عليهما، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره ونور له فيه].

هذه الجمل التي ذكرها رحمه الله تشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: أن السنة في التكبيرة الثالثة أن يدعو، وهذا سببه أن الصلاة إنما شرعت من أجل الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وهذه رحمةٌ من الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث جعل للأموات حظاً عند الأحياء أن يذكروهم بصالح الدعوات.

ولا شك أنه ليس هناك مسلم إلا وهو محتاج إلى من يدعو له، ولو كان عبداً صالحاً؛ فإن الصالح يزداد من رحمة الله عز وجل، وأما غيره فأمره أشد وحاجته أعظم أن يترحم عليه ويستغفر له، فمن رحمة الله عز وجل أن شرع هذه الصلاة، ولقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشفعون له إلا شفعهم الله فيه، وما من مسلمٍ يقوم عليه مائة يسألون الله له إلا وجبت) كما في صحيح مسلم، قيل: وجبت دعوتهم أو وجبت شفاعتهم، وهذا فضلٌ عظيم، فكيف إذا قام عليها الألوف؟! ومن هنا: يستحب كثرة المصلين على الميت؛ لكثرة الدعاء وسؤال الله عز وجل رجاء الإجابة، خاصةً إذا وُجدَ فيهم من هو حافظٌ لحدود الله، فهو أرجى أن يقبل الله عز وجل دعاءه.

والسنة أن يكون عددهم كثير، فإذا نقص عددهم يُسن ألا يقلوا عن ثلاثة صفوف، فيجزؤهم الإمام ثلاثة صفوف، وفي ذلك حديث مالك رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ثلاثة صفوف: (أنهم إذا شفعوا للميت شُفِّعوا) وكان مالك رضي الله عنه إذا استقل العدد جزأهم ثلاثة صفوف، حتى ولو كانوا ستة جعل كل اثنين صفاً، كل ذلك لفضل كثرة الصفوف على الميت.

فهذا الدعاء كلما كان من عددٍ أكبر؛ كلما كان أفضل وأرجى.

وعلى هذا قالوا: إنه يختار المساجد التي هي أكثر عدداً؛ لكثرة الشفعاء وكثرة المصلين والداعين له.

وأما الأدعية التي ذكرها: فإنه نوع رحمه الله في الأدعية وأدخل بعضها في بعض، والمحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار -على رواية الشك- عذاب القبر أو عذاب النار) قال الصحابي: حتى تمنيت أن أكون ذلك الرجل.

فإن كانت امرأة يقول: أبدلها أهلاً خيراً من أهلها، ولا يقول: زوجاً خيراً من زوجها؛ لأن المرأة لزوجها في الآخرة إذا ماتت عنه وهي في عصمته، أما لو تزوجت أكثر من زوج وتوفيت فقد سألت أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي يكون لها أكثر من زوج لمن تكون يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هي لأحسنهم خُلقاً) ولذلك يقولون: لا يقال في المرأة: (وأبدلها زوجاً خيراً من زوجها)؛ لأنها قد تكون لزوجٍ واحد، وإنما يكون الزواج للرجال، فيقال: (أبدله أهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه) إشارة إلى الحور العين، وما جعل الله من الكرامة فيها، وهو حكم الله الذي لا يعقب.

وأما قوله: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا -إلى قوله:- إنك على كل شيءٍ قدير) زيادة (إنك على كل شيء قدير) ليست واردة، الوارد إلى قوله: (إنك تعلم متقلبنا ومثوانا) وهذا فيه مناسبة الحال، وهو أيضاً دعاءٌ محفوظ.

وأما المقطع الأخير الذي ذكره رحمة الله عليه: (اللهم افسح له في قبره ونور له فيه) فهو قطعة من دعائه صلوات الله وسلامه عليه لـ أبي سلمة؛ فإنه لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وقد جاد بنفسه فسمع صوت الصائح فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصياح، وقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: هذه الساعة تؤمن الملائكة على ما يقال- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه) وذلك إشارة إلى حال السعداء إذا نزلوا القبور، وذلك أن المؤمن يفسح له في قبره مد البصر؛ لأن إفساح القبر يزيد في فُسحة الصدر، وفسحه القبر.

والقبر يضيق على الكافر والمنافق حتى تختلف أضلاعه، ومن هنا كان من رحمة الله بالمؤمن أن يفسح له في القبر.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء للميت: (افسح له في قبره) دليل على أن القبور تنفسح وتضيق، وأن هذا من عالم الغيب الذي لا يمكن للعقول أن تدرك كيفيته؛ فإنك لو نظرت إلى القبور رأيتها متجاورة، وقد يكون الكافر بجوار المسلم والمنافق بجوار الموقن، وكذلك الصالح بجوار الطالح، ولكن الله سبحانه وتعالى أعلم بما بينها من الدرجات والدركات، فكم من قبورٍ تراها في كهوفٍ مظلمة قد ملئت أنواراً ورحمةً على أهلها، وقد تكون في الفيافي والقفار الموحشة ولكن الله يؤنس أهلها بالفسحة والسرور، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه القبور.

وأما القسم الثاني فهم الذين تضيق عليهم قبورهم، فكم من قبور وهي في الضياء، والناس حولها يسرحون ويمرحون، ولكن أهلها في عذابٍ ونكد، حتى يأذن الله عز وجل ببعث الأرض ومن فيها.

وأما المقطع الصحيح الذي أشرنا إليه: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه)، دعا له المغفرة؛ لأن الإنسان لا يأتيه الشر في آخرته ولا في دنياه إلا بذنبه؛ فإن غفر الله الذنب لم يؤاخذ العبد، وذهب عنه شؤم معصيته، وقد سميت السيئة سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها في الدنيا؛ فإن سلمه الله من شرها في الدنيا فإنها تسيء إليه في القبر، فإن سلم من الدنيا والقبر فإن الله قد يجعل نكالها مجموعاً عليه في الآخرة؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر له) فجعلها مغفرةً قبل دخوله لقبره، وقبل معاينته لصالح عمله وطالحه، وكونه يسأل المغفرة قبل أن يدخل في قبره من الشفاعة له بألا يرى ما يسوؤه وهو قادمٌ على عمله؛ خاصةً ما يكون منه من المعاصي في أقواله وأفعاله.

قوله: (اللهم اغفر له) فإن غُفِر للعبد أصابته الرحمة، ولذلك قال: (وارحمه) فإن الإنسان قد يغفر له ولكنه يحتاج إلى الرحمة، ثم قال: (وعافه) لأن القبور فيها فتن وأهوال وشدائد، فيحتاج الإنسان أن يعافى منها، والعافية: السلامة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) وفي الحديث الصحيح: أنه كان إذا أمسى وأصبح يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي) فهذا يدل على فضل سؤال العافية.

(وعافه واعف عنه) هذا بالنسبة للحقوق التي لله سبحانه وتعالى.

(وأكرم نزله) وهذا يدل أن في القبر نزلاً، وقيل: المراد (أكرم نزله) أي: في الآخرة، وهذا إشارة إلى حال السعداء.

(ووسع مدخله): أي في القبر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم افسح له في قبره، ووسع مدخله، واغسله بماءٍ وثلجٍ وبرد) فيه فوائد منها: أن الماء هو الأصل في التطهير، وبناءً على ذلك قالوا: الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالحجارة؛ لأنه هو الأصل في التطهير، وفيه دليل على أن المائع هو الأصل في الإنقاء (واغسله بماء وثلجٍ وبرد).

أما حقيقة الغسل فللعلماء وجهان: منهم من يقول: اغسله حقيقةً، فالميت يغسله الله جل وعلا على صفةٍ لا نعلمها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل.

ومنهم من يقول: (اغسله بالماء والثلج والبرد) كنايةٌ عن المغفرة، فيجعل الأمر على المجاز لا على الحقيقة.

والصحيح: أن (اغسله) على حقيقته، وأن حقيقة الغسل ترد إلى الله سبحانه وتعالى علام الغيوب.

وأخذ بعض العلماء من قوله: (والثلج) أن الثلج يمكن أن يتوضأ به؛ وذلك أنه وصف الثلج بأنه يُغسل به؛ فدل على أنه لو أخذ الثلج ومر به على أعضاء الوضوء، وأصاب بلل الثلج الأعضاء ووجد بلله عليها فإنه قد توضأ.

وبناءً على ذلك: لو وجد الثلج ولم يجد الماء فإنه لا يعدل إلى التيمم، وفي حكم الثلج البرد، لقوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد).

والذين يقولون: إن الثلج والبرد لا يغتسل بهما ولا يتوضأ بهما، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسله بالماء) وأما الثلج والبرد فزيادة نعيم له، كما أن الكافر يعذب بزيادة الجحيم فالمؤمن ينعم بزيادة النعيم، فجعلون الثلج والبرد تبعاً للماء ولم يجعلوه أصلاً.

والأصل في الرواية أنها تقصد الجمع؛ ولذلك يقوى قول من قال: إنه لو مر بالثلج على يده فقد حصلت الطهارة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) في رواية: (ونقه من الخطايا).

بعض العلماء يقول: هناك فرق بين الذنب والخطيئة، ومنهم من يقول: لا فرق بين الذنب والخطيئة، وهناك كلام فيه تكلف في هذه المسألة؛ فأحياناً تُجعل الخطايا دون الذنوب، وأحياناً الذنوب أعظم من الخطايا، وهذا في مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.

والتنقية من الذنوب والخطايا فيه إشارة إلى أن من يفعل الذنب فإن الذنب يتعلق ببدنه، وهذا له أصل، وهو الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن العبد المؤمن إذا توضأ خرجت كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه من

<<  <  ج:
ص:  >  >>