للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الصلاة على قاتل نفسه]

قال المصنف رحمه الله: [ولا على قاتل نفسه].

أي: ولا يصلى على من قتل نفسه، وهو المنتحر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (أنه أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فامتنع من الصلاة عليه، فصلى عليه الصحابة) وفي هذا دليل على أنه يترك ليصلي عليه الناس، أما الإمام -الذي هو إمام المسجد أو الإمام العام- فإنه لا يصلي عليه؛ زجراً للناس عن فعله.

والقاتل لنفسه ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعذب بما قتل به نفسه، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري-: (من تحسى سماً فمات منه؛ فهو في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها، ومن طعن نفسه بحديدة فمات فهو يجأها في نار جنهم خالداً مخلداً فيها، ومن صعد إلى شاهق فتردى منه فمات، فهو في نار جنهم يتردى خالداً مخلداً فيها) نسأل الله السلامة والعافية.

والخلود هنا للمستحل الذي استحل هذا الفعل، ولا شك أن الإقدام على الانتحار إنما يكون لضعف الإيمان، ولذلك ينبغي للمسلم أن يسعى في زيادة إيمانه، وأن يعود نفسه كلما ضاقت عليه الدنيا أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن كثرة الضيق وكثرة الهموم والغموم توجب على المؤمن التسلح بالتعلق بالله عز وجل أضعاف ما نزل به من البلاء، وكلما كان التجاء العبد إلى الله أصدق، ويقينه بالله سبحانه وتعالى أكمل؛ كلما كان الفرج أقرب إليه من حبل الوريد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:١١٨] فلما بلغ الأمر مبلغه، ووصلوا إلى قوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:١١٨]، جاء الفرج عند قوة اليقين أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفر ولا مهرب من الله إلا إلى الله؛ فإن بلغ العبد هذا المبلغ فقد نعمت عينه في البلاء، وهذا هو مقام اليقين في حال الكرب.

فإن الإنسان تنتابه الهموم في نفسه وأهله وماله وولده، فإذا اطرح بين يدي الله عز وجل داعياً ضارعاً شاكياً مبتهلاً متضرعاً متخشعاً فإن الله يحب منه ذلك، ولعل الله أن يجعل هذا الابتهال والتضرع سبباً في زيادة قربه منه؛ لأنه كلما ابتهل وتضرع لله سبحانه وتعالى وصدق في يقينه كلما زاد قربه من الله، وكم من إنسان نزلت به المصيبة فكانت سبباً في قربه من الله جل وعلا، وهذا الذي يسميه العلماء: تحول النقمة إلى نعمة، أي: أنها نقمة في الظاهر لكنها آلت إلى نعمة في الباطن.

فينبغي على المؤمن ألا يقدم على هذه النهاية التي هي أسوء النهايات، وهي من علامات سوء الخاتمة، والله عز وجل جعل النفس أمانةً في عنق كل الإنسان، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:٢٩].

يقول بعض العلماء: إن الله قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ثم قال بعدها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} كأنه يقول: أبشروا، مهما أصابكم من الهم والغم فإني رحيمٌ بكم، ولا يحتاج الإنسان لتفريج همه وإزالة غمه أن يقدم على تعذيب نفسه، بل عليه أن يقبل على الله سبحانه وتعالى، وأن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا ملجأ للعبد ولا منجى منه إلا إليه سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه عند النوم أن يقول: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك).

فإذا فوّض العبد أمره إلى الله ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية، وصعدت كلماته ودعواته وابتهالاته ومناداته إلى الله سبحانه وتعالى، كلمات تفتح لها أبواب السماوات؛ لأنها تخرج من قلبٍ صادق متعلق بالله جل جلاله؛ فيرحمه الله عز وجل، ولكن إذا أراد الله أن يشقي عبداً أسلمه إلى الشيطان، وأسلمه إلى سوء الظن بالرحمن، فأصبحت تضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، فأول ما ينزل به من الكرب في نفسه وماله وولده، تضيق دائرته عليه ويتسخط على القضاء والقدر، ولربما يتسخط على ربه، ويذكر الكلمات التي لا تليق بالله سبحانه وتعالى، وأن الله ظلمه، وأن الله نكد عيشه وأن الله، وأن الله، فلا يزال ربك يضيق عليه حتى يضيق من نفسه التي بين جنبيه، فيتسلط عليه الشيطان، فيقدم على قتلها وينتحر والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.

فهذا لا يكون إلا مع ضعف الإيمان، فمن قتل نفسه وأقدم على الانتحار فإنه لا يصلى عليه؛ لكن بشرط: أن يكون إقدامه على قتل النفس والانتحار بغير عذر، أما لو انتحر بعذر كإنسان مجنون رمى نفسه من شاهق، فإنه يصلى عليه ويترحم عليه، ويدعى له، وهو على خير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يشفيك.

قالت: أصبر ولي الجنة).

فمثل هذا إذا ابتلي ببلاء في نفسه من سحرٍِ أو مسٍ أو جنون فانتحر؛ فإن الله عز وجل يؤجره على ما كان منه، ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويترحم عليه، لما له من الأصل، ويكون فعله هذا معذوراً به على حاله الذي بلي به.

وهكذا يقول العلماء: لو شرب المسكر غير عالم به، ثم قتل نفسه؛ فإنه لا يكون في حكم المنتحر، كإنسان أعطي شراباً يظنه عصيراً أو ماءً فشربه، فإذا به مسكر، فسكر وقتل نفسه؛ فإن مثل هذا يصلى عليه؛ لأن سكره كان بعذر، وهكذا لو خدر في جراحةٍ ونحوها، وحصل منه شيء عند زوال إدراكه وعدم وعيه حتى مات وتَلِفت نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر معذوراً، كما لو أقدم على سل شيء من نفسه لنفسه ونحوه فمات بسبب عدم وجود النفس؛ فإنه في هذه الحالة يعذر ويصلى عليه، ويصلي عليه الإمام، ويدعى له ويستغفر له.

أما بالنسبة لغير هؤلاء من عموم العصاة فللعلماء فيهم قولان: من أهل العلم من يقول: كل من ارتكب الكبائر -خاصةً من يجاهر بها- فإنه يمنع من الصلاة عليه، أي: لا يصلي عليه الإمام، أما أفراد الناس فيصلون عليه، والسبب في ذلك: أنهم مطالبون بالصلاة على الميت، إضافةً أنهم يؤجرون عليها، فلا وجه أن تحرم نفسك القيراط في الصلاة عليه.

فيصلى عليه.

لكن بالنسبة للإمام فلا يصلى على هؤلاء للاستثناء الذي ذكرناه، والقول: بأنه يختص بما ورد من قاتل النفس والغال من القوة بمكان، ويبقى ما عداهم على الأصل الموجب لصلاة الإمام وغيره عليهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>