للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم رفع القبر قدر شبر]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً].

ذكر المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بدفن الميت؛ ثم شرع في بيان ما ينبغي أن يُفعل بظاهر القبر، فبين رحمه الله بهذه الجملة أن القبر يرفع شبراً، بمعنى: أن القبور لا ينبغي أن تكون مستوية بالأرض؛ لأن استواءها بالأرض يوجب الجهل بها، وعدم الرعاية لحرمتها، فكلما كانت معروفةً بينة كان ذلك أدعى لحفظها بعدم الوطء والجلوس عليها والصلاة إليها، وأما إذا كانت مستويةً بالأرض فالأمر على خلاف ذلك.

وقوله: (شبراً): الشبر: من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر، فهذا القدر يوصف في لغة العرب بكونه شبراً كما ذكر صاحب اللسان.

وقد يطلق (الشبر) بمعنى العطية والهِبة، ومنه: تسمى المرأة الكريمة (مشبورة).

وقوله: (يرفع شبراً) مأخوذٌ من السنة؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مرتفعاً عن الأرض، فلم يكن لاصقاً بالأرض ولا مبالغاً في رفعه؛ بل كان مرفوعاً قدر شبر كما ورد في بعض الروايات، وهذا القدر هو المأذون به: وهو ما يقارب الشبر؛ يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً؛ لأنه تتحقق به الحاجة من العلم بالقبر، فلا يصلى ولا يجلس ولا يوطأ عليه، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرناها.

ومما يدل على مشروعية رفع القبر: ما ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورةً إلا طمستها، ولا تمثالاً إلا كسرته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل هذا الحديث على أن السنة: ألا يترك القبر مشرفاً، وهو: أن يبالغ في رفعه على الأرض، وكذلك أيضاً لا يترك مستوياً بالأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الإزالة بالمشرف، فدل على أن القبر غير المشرف، وهو الذي ارتفع ارتفاعاً معقولاً دون أن يكون فيه مبالغة؛ يترك على حاله.

وكذلك ورد في صحيح البخاري عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما كُشِف لبعض التابعين رحمهم الله، أنه كان مرتفعاً عن الأرض، لهذا كله نص العلماء على أن السنة في القبور أن ترفع عن الأرض، وذكروا هذا القدر -قدر شبر- كما ورد في بعض الروايات في قبره صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: (مسنماً) تسنيم الشيء رفعه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:٢٧ - ٢٨] فقوله: (من تسنيم) قيل: إنها عين تأتي من أعلى الجنة، فلا يتكلف الإنسان في طلبها فأنهار الجنة تكون حاضرة للإنسان حتى إنها تصب عليه من علوٍ، فإذا اشتهاها وأرادها كانت أقرب ما تكون إليه، وهذا على أحد الأقوال في تفسيرها.

وسنم الشيء إذا رفعه وأعلاه، وقوله: (مسنماً) أي: غير مسطح، وقد عرف أهل اللغة كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: أن التسنيم ضد التسطيح، وكأنه رفع القبر، وذلك يكون باجتماع طرفيه، وقد ورد ذلك في حديث التمار بن التمار، كما أشار إليه البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه لما كُشِفَ له عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رآه مسنماً، ورأى قبر صاحبيه على هذه الصفة، ثلاثة قبور غير لاصقة بالأرض ولا مرتفعة، وهي مسنمة، وهذه هي السنة: أن يكون القبر مسنماً خلافاً لمن قال من العلماء: إن السنة أن يكون مسطحاً.

فالتسنيم اجتماع الطرفين كسنام البعير.

<<  <  ج:
ص:  >  >>